jeudi 17 septembre 2015

الزحام شارل بولدير


 شارل بودلير / Charles Baudelaire







م يتيسَّر لكل إنسان أن يستحم في حشد من الناس: إن التمتع بالزحام فنٌّ؛ ولا يستطيع القيام بعربدة حيوية، على نفقة الجنسلل 
البشري، سوى هذا الذي نفخت جنّية فيه، وهو في مهده، طعمَ التنكّر والقناع، كراهية البيت وحب السفر.
حَشدٌ، وَحْدةٌ: مفردتان متعادلتان وقابلتان للتحوّل بالنسبة إلى الشعراء النشطين والغزيرين. هذا الذي لا يعرف كيف يجعل وَحْدته مكتظة، لا يعرف أيضاً أن يكون وحيداً وسط زحامٍ منهمكٍ في أشغاله.

الشاعر يتمتع بهذا الامتياز الذي لا نظير له، في أن يكون كما يشاء هو نفسه والآخر. مثل هذه النفوس التائهة التي تبحث عن جسد، يدخل، متى يشاء، شخصية أي كائن آخر. بالنسبة إليه وحده، كلُّ شيء فارغٌ؛ وإذا بدت أماكن مغلقة أمامه، فلأنها لا تستحق في نظره أن تُزار.
يستمدُّ المتنزّهُ المتأمل والمنفرد بنفسه ثمالةً فريدة من هذا الاتحاد الكوني. ذاك الذي ينسجم بسهولة مع الزحام يتمتع بملذات محمومة، يُحرم منها الأناني، المنغلق على نفسه كخزانة، والكسول المحجوز كمحارة. الشاعر يتبنَّى، وكأنها خاصته، كل المهن، كل المتع وكل أشكال البؤس التي يتعرَّض لها بسبب الظروف.
إن ما يُسمِّيه الناس بـالحب هو فعلاً شيءٌ صغيرٌ، محدود وضئيل، مقارنةً بهذا الفجور الفائق الوصف، بعهر الروح المقدَّس هذا  الذي يستسلم بأكمله، شعراً وإحساناً، للطارئ الذي يتجلَّى، للمجهول الذي يمر.
من المستحسن أحياناً إعلام سعداء العالم، فقط لتحقير كبريائهم التافهة للحظة واحدة، بأن ثمة سعادة أكبر وأفسح وأرفع من سعادتهم. مؤسِّسو المستعمرات، رعاة الشعوب، المبشّرون المنفيون في أقصى العالم، يعرفون بلا شك بعض هذه الثمالة الغامضة؛ ومن المحتمل أنهم، في حضن العائلة الكبرى التي خلقتها عبقريتهم، يضحكون أحياناً من هؤلاء الذين يشفقون عليهم بسبب حظهم المضطرب وحياتهم العفيفة.

**** **** **** ****
- ترجمة عبد القادر الجنابي

شارل بودلير (1821-1867) هو شاعر وناقد فني فرنسي. ويعتبر بودلير من أبرز شعراء القرن التاسع عشر ومن رموز الحداثة في العالم. و لقد كان شعر بودلير متقدما عن شعر زمنه فلم يفهم جيدا الا بعد وفاته. بودلير بدأ كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه ازهار الشر، مدفوعا بالرغبة في شكل شعري يمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبري حتي يقتنص في شباكه الوجه النسبي الهارب للجمال ، وجد بودلير ضالته فيما كتبه الوزيوس بيرتيران من پالادات نثرية مستوحاة من ترجمات البالادات الاسكتلندية والالمانية الي الفرنسية. والبالاد هو النص الذي يشبه الموال القصصي في العربية وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما علي جمود الكلاسيكية.

الزحام - شارل بودلير (قصيدة)

في تحد للمؤسسة النقدية والأدبية‮:‬ د.سماح سليم‮:‬ في البدء كانت الرواية الأعلي مبيعاً‮!‬

في تحد للمؤسسة النقدية والأدبية‮:‬ د.سماح سليم‮:‬ في البدء كانت الرواية الأعلي مبيعاً‮!‬









بعد عام ونصف قضته د.سماح سليم في القاهرة عادت منذ بضعة أسابيع إلي الولايات المتحدة لتدريس الأدب في جامعة روتجرز،‮ ‬ولتحاول الانتهاء من الكتاب الذي تعمل عليه منذ سنوات حول أصول الرواية العربية والأدب الجماهيري‮.‬
في رحلتها البحثية نشرت د.سماح عددا من الدراسات عن ذات الموضوع أبرزها الدراسة التي نشرت ضمن كتاب‮ "‬عصور نهضة أخري‮" ‬وصدر مؤخراً‮ ‬عن عالم المعرفة بترجمة د.علاء الدين محمود حيث حملت دراسة د.سماح عنوان‮ "‬وسائل تسلية الشعب‮: ‬الترجمة والرواية الشعبية والنهضة في مصر‮".‬
تتحدي أطروحة د.سماح سليم تاريخ الرواية العربية كما نعرفه كسلسلة من التراجم تمخضت في النهاية عن الرواية التي‮ ‬يتم تقديمها دائما كأول رواية عربية ومصرية حديثة‮ "‬زينب‮" ‬لمحمد حسنين هيكل‮. ‬تري سماح سليم أن الجذور الأصيلة لفن الرواية تعود إلي ما قبل ذلك مع مترجمين وكتاب كانت أعمالهم الأكثر مبيعاً،‮ ‬وناشرين كخليل صادق عملوا لسنوات في سبيل تأسيس ما سموه بسوق عكاظ لفن الرواية،‮ ‬وحروب شرسة خاضها هذا الفن الجديد مع مؤسسات النشر والتيارات السياسية والفكرية السائدة في مصر في بداية القرن العشرين،‮ ‬حيث خسرت الروايات الشعبية معاركها أمام الرواية القومية التي أعد نقادها كتابة التاريخ الأدبي بما‮ ‬يتناسب مع طرحهم‮.‬
لسماح حكاية تصلح كمدخل لفهم الطريق الذي قادها لأطروحتها الجريئة ترتبط تفاصيلها بالتاريخ الشخصي لها‮. ‬هاجرت أسرة سماح من مصر وهي في سن العاشرة‮. ‬الوالدة التي كانت قارئة نهمة للروايات جعلت من الأدب والرواية وسيلة ربطها بمصر‮. ‬تقول سماح عن والدتها‮: "‬كانت لها ذوق قارئ محب للرواية كفن ممتع ومسل،‮ ‬وكانت أحكامها تنطلق من تفضيلات شخصية علي سبيل المثال كانت تحب إحسان عبد القدوس،‮ ‬لكن نجيب محفوظ لم‮ ‬يكن كاتبها المفضل لأن دمه ثقيل بعض الشئ في رأيها‮"‬
كان الأدب بعد ذلك هو الطريق الذي اختارته سماح لدراستها الأكاديمية حيث اختارت انجاز رسالتها للدكتوراه حول الرواية المصرية الحديثة من‮ (‬1880‮- ‬1985‮). ‬لكن السؤال؛ كيف قادك هذا الموضوع إلي تقديم أطروحتك المخالفة للرواية السائدة نقديا وتاريخاً؟
‮-‬حينما بدأت العمل علي موضوع البحث،‮ ‬جمعت الكثير من المصادر والمراجع عن الرواية المصرية والعربية‮. ‬لفت نظري منها سلسلة مسامرات الشعب‮. ‬وهي سلسلة روايات كانت تطبع في مطبعة الشعب وأسسها خليل صادق‮. ‬كان ناشراً‮ ‬مغامراً‮ ‬وطبع الكثير من الكتب المثيرة للجدل في ذلك الوقت منها كتاب قاسم أمين الشهير‮ "‬المرأة الجديدة‮". ‬وأسس سلسلة مسامرات الشعب لنشر الروايات سواء المترجمة أو المعربة أو حتي المكتوبة لكتاب مصريين وعرب‮.‬
بدأت سلسلة مسامرات الشعب عام‮ ‬1904‮ ‬واستمرت حتي‮ ‬1911،‮ ‬ثم عادت مرة أخري للظهور في عام‮ ‬1920‭.‬‮ ‬نشرت السلسلة الكثير من الروايات منها روايات نثرية كاملة لأمير الشعراء أحمد شوقي ولكتاب آخرين‮. ‬واختلفت السلسلة ومنشوراتها في كل مرحلة‮. ‬ففي المرحلة الأولي كانت الروايات‮ ‬غالبيتها مترجمة أو معربة،‮ ‬لكن بعض الروايات كان‮ ‬يضع عليها عنوان‮ "‬مترجمة‮" ‬دون أن تكون كذلك فقد كان بعض الكتاب‮ ‬يكتبون الروايات وينشرونها ويدعون أنها مترجمة سعياً‮ ‬وراء الربح التجاري،‮ ‬حيث كان الإقبال أكبر علي الروايات المترجمة من قبل هذا الجمهور‮. ‬أحياناً‮ ‬كان المترجمون‮ ‬يتدخلون لتغيير أحداث كاملة من الرواية علي سبيل المثال ترجم‮ "‬محمد لطفي جمعة‮" ‬رواية استرالية بعنوان‮ "‬انتقام الفرعون‮" ‬في الرواية الاسترالية‮ ‬يستيقظ كاهن فرعوني ليحاربه بطل الرواية في مغامرة مثيرة،‮ ‬لكن حينما ترجمها لطفي جمعة جعل الكاهن الفرعوني هو الشخصية الطيبة‮.‬
في البعث الثاني لسلسلة مسامرات الشعب كانت الترجمات معظمها لروايات كلاسيكية مختلفة بداية من فيكتور هيجو وحتي تولستوي وديستوفيسكي،‮ ‬وكان الترجمة أكثر التزاما بالنص،‮ ‬وإصراراً‮ ‬علي أن تخرج النصوص المترجمة ملتزمة بقواعد النحو والإملاء للغة العربية والبعد عن استخدام الكلمات المعربة والكلمات العامية وهو العيب الذي كان واضحاً‮ ‬في المرحلة الأولي من السلسلة وتلقت الكثير من النقاد عليه‮.‬
‮-‬من كان جمهور هذه الأعمال في ذلك الوقت ولماذا كانت لمثل هذه الروايات هذه الشعبية الكبيرة؟
حدث نمو كبير في التعليم الجماهيري في نهاية القرن التاسع عشر،‮ ‬وظهر جمهور من القراء شبه المتعلمين‮. ‬وقد مثلت روايات المغامرات والرواية الشعبية ملاذاً‮ ‬لهذا الجمهور الذي أقبل عليها بنهم‮. ‬مثل الأمر في نظر النخبة المثقفة موضوعاً‮ ‬دائماً‮ ‬للجدل والنقاش والتحسر علي إقبال الجمهور علي الروايات المثيرة والبعد عن الأدب الجديد،‮ ‬في العام‮ ‬1918‮ ‬شكا حسن الشريف في مجلة‮ "‬الهلال‮" ‬من أن الكتاب‮ "‬الجادين‮" ‬مثل محمد حسنين هيكل عجزوا عن بيع طبعاتهم الأولي الصغيرة للغاية،‮ ‬بينما وصلت الروايات البوليسية إلي طبعات متعددة بآلاف النسخ‮.‬
يجب أن أشير هنا إلي أن معظم الدراسات النقدية عن هذه الحقبة تعاملت مع هذا الجمهور بقدر كبير من التعالي،‮ ‬مثلاً‮ ‬عبد المحسن طه بدر في دراسته الكلاسيكية عن تاريخ الرواية العربية وصف هذا الجمهور بأنصاف المثقفين‮. ‬وفسر شعبية تلك الروايات بأنها مثلت وسيلة للهرب لهذه الطبقة من الواقع السياسي والاجتماعي المرير‮. ‬وتمثل تلك الفترة بالنسبة له عصر الاضمحلال الأدبي الذي انتهي بظهور‮ "‬الرواية الفنية‮" ‬التي تسجل الظهور المنتصر للذات القومية المستقلة في الرواية‮.‬
كانت الروايات الشعبية موضوعاً‮ ‬دائماً‮ ‬للهجوم من قبل الصحافة والمجلات في ذلك الوقت،‮ ‬في العام‮ ‬1882‮ ‬بررت مجلة المقتطف رفضها لنشر الروايات نظراً‮ ‬لأثرها المدمر علي عقول الشباب من الجنسين بل إن نقادا آخرين ألقوا باللوم علي الروايات الشعبية كأحد أسباب وقوع مصر تحت السيطرة الاستعمارية‮.‬
‮-‬كيف كانت سمات الروايات الشعبية إذن،‮ ‬وما هو وجه الخلاف بينها وبين الروايات‮ "‬القومية‮" ‬كما سميتها في‮ ‬دراستك؟
في العشرينات والثلاثينات حاول كتاب مصريون كسلامة موسي،‮ ‬محمود تيمور،‮ ‬ومحمد حسنين هيكل تمهيد الأرض لمفهوم نقدي جديد عن‮ "‬الأدب القومي‮". ‬وكانت سمات الرواية القومية محددة في ثلاث خصائص مميزة هي البيئة،‮ ‬والشخصية والزمن‮. ‬حيث حددت البيئة المصرية والشخصية المصرية سواء من الحضر أو الريف وبإدراك واسع للتاريخ القومي،‮ ‬باعتبارها المكونات اللازمة للرواية القومية الحقيقية‮. ‬وكانت الواقعية هي الاستعارة المجازية الطبيعية لهذا المشروع،‮ ‬وتتمثل تيمتها الأساسية في أزمة الذات البرجوازية في عالم ممزق في الصراع بين‮ "‬التراث‮" ‬و"الحداثة‮".‬
علي الطرف الآخر كانت الحداثة التي تشكلت في الرواية الشعبية حداثة سياسية واجتماعية،‮ ‬وقدمت نفسها في أشكال متعددة تبدأ من الرواية البوليسية،‮ ‬القصص المثيرة،‮ ‬والقصص الرومانسية والميلودراما،‮ ‬وتقع أحداثها‮ ‬غالباً‮ ‬في صالونات البرجوازية وشوارع الاجرام في المدن الكبري‮. ‬نلمح هذا بوضوح حتي في عناوين روايات تلك الفترة‮. ‬رواية‮ "‬الأبرياء‮" ‬للبيب أبو ستيت وضع لها عنوان فرعي‮ (‬أدبية‮ ‬غرامية بوليسية‮)‬،‮ ‬ورواية‮ "‬قوت الفاتنة‮" ‬لمحمد رأفت الجمالي حملت عنوان فرعي‮ "‬تاريخية مصرية نفسية‮ ‬غرامية‮". ‬أما رواية نقولا حداد‮ "‬آدم الجديد‮" (‬1914‮) ‬فهي ميلودراما فلسفية محكمة عن الفساد الاجتماعي والخلاص تقع أحداثها في أحضان البرجوازية المسيحية الشامية بالقاهرة في تسعينات القرن التاسع عشر‮.‬
لم تلتزم بعض تلك الروايات بحاجز المكان فرواية نقولا رزق الله‮ "‬السائلة الحسناء‮" ‬تقدم لنا مجموعة من‮ ‬غريبي الأطوار من اللصوص والنصابين ذوي الجرأة القادمين من عالم الجريمة والرذيلة والجريمة الشريرة في باريس ولندن وشيكاغو‮.‬
لذا نظر الكتاب والنقاد إلي الرواية الشعبية باعتبارها النقيض للرواية الحديثة تحديداً‮ ‬لأنها تملصت من المفاهيم القومية الخاصة بالذاتية والزمن والموقع‮. ‬أضف إلي ذلك أن كتاب تلك الروايات امتلكوا جرأة كبيرة في استخدام الكثير من الألفاظ العامية والكلمات المعربة تسهيلاً‮ ‬علي القارئ،‮ ‬وهو ما اعتبره النقاد تعدياً‮ ‬علي اللغة العربية وقواعدها‮. ‬في أكثر من موضع عبر نقاد كطه حسين ومصطفي العقاد وعبد المحسن طه بدر عن الأسي والرثاء إزاء ما رأوا أنه حريات متجاوزة في التعامل مع اللغة العربية واستخفاف متعمد بقواعد النحو واستخدام الكلمات الأجنبية‮.‬
‮-‬لكن لماذا لم‮ ‬ينظر إلي هذا الإفراط في استخدام العامية وتبسيط اللغة كثورة،‮ ‬أو محاولة لخلق لغة قومية مصرية خاصة؟
المترجمون والكتاب الشعبيون في هذه الفترة لم‮ ‬يكونوا مشغولين بسؤال اللغة بشكل عميق،‮ ‬واستخدام العامية وتبسيط الفصحي كان لأغراض تجارية،‮ ‬وليس لخوض تجربة تجريبية لغوية أو صياغة عامية مكتوبة لم‮ ‬يكن الأمر مشروعا لغويا أدبيا كحالة عبد الله النديم مثلاً‮. ‬لاحظ أيضاً‮ ‬أن اللغة العربية الكلاسيكية كانت في خضم تحول هائل بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر‮. ‬وكانت الصحافة والرواية أهم قناتين من قنوات الاتصال أجبرت تلك اللغة الكلاسيكية المنضبطة علي الاستجابة للتكنولوجيا وللذوات الجديدة في العالم الحديث‮. ‬لكن النقاد الأكاديميين أمثال حسن الزيات وطه حسين والمازني والمؤسسات الأدبية التي تشكلت خصوصاً‮ ‬مع تأسيس الجامعة حاولت تقديم لغة جديدة تحقق أكبر قدر من التواصل والمتعة بأسلوب عربي حديث ومنمق،‮ ‬لذلك فقد كانوا في عداء مع التجارب الشعبية وإفراطها في كسر قواعد اللغة العربية‮.‬
‮-‬كيف إذن تعامل كتاب الرواية الشعبية مع كل هذا الهجوم والنقد الموجه لها؟
خليل صادق ناشر سلسلة مسامرات الشعب والناشر الأكبر للروايات في ذلك الوقت كان واعياً‮ ‬جداً‮ ‬لصعوبة مهمته،‮ ‬وأن هذا الفن جديد علي الناس في مصر‮. ‬في عدد من الروايات كان هناك مقدمات‮ ‬يناقش فيها خليل ما هي الرواية وما هو تعريفها‮. ‬والفكرة المتكررة هي أن ما تقرأه‮ "‬واقع‮" ‬حتي لو بدت لك أحداثه خيالية،‮ ‬فالواقع أغرب من الخيال‮. ‬وفائدة قراءة الروايات أن‮ ‬يتعلم القارئ ألا‮ ‬يكرر أخطاء الأبطال‮. ‬
كان أهم النقد الموجه لكتاب الروايات في ذلك الوقت هو التحريض علي الفسق والفجور،‮ ‬وفي هذا السياق أذكر سنة‮ (‬1904‮)  ‬نشر أحمد حافظ عوض رواية بعنوان‮ "‬الحال والمال‮" ‬عن باشا من البرجوازية المصرية‮ ‬يقرر تحدي المجتمع ويعلم بنته في المدارس،‮ ‬لكن الفتاة حينما تتعلم تبدأ في قراءة الروايات الفرنسية وتنحرف حيث تبدأ في مراسلة أحد الشباب وتهرب من بيت والديها وتتزوجه ثم تنهار حياتهم وتسقط في بئر من النبذ الاجتماعي وتتدهور حالتها حتي الموت بائسة‮. ‬لكن الطريف هو ما كتبه حافظ عوض من أن الرواية ليست ضد تعلم الفتيات،‮ ‬بل علي العكس هو مع تعليم الفتيات لكن‮ ‬يحذر فقط من خطر قراءة الروايات الفرنسية‮. ‬باختصار كان لدي كتاب الروايات الشعبية والأعلي مبيعاً‮ ‬في هذه الفترة ميل وراء عمليات النشر ولم‮ ‬يكن النقد الموجه لهم ليؤثر كثيراً‮ ‬علي مبيعات أعمالهم بل في الغالب وعلي العكس كان‮ ‬يزيد منها‮.‬
‮-‬كتاب هذه الفترة كانوا مترجمين في الوقت ذاته،‮ ‬ولأغراض تجارية فبعض الروايات كانوا‮ ‬يطبعونها باعتبارها مترجمة،‮ ‬كيف ميزت أثناء بحثك هذا التلاعب وسط‮ ‬غياب وندرة المصادر؟
‮-‬احتجت لتكوين خبرة لفهم كل هذه الألعاب التي كان‮ ‬يمارسها كتاب وناشرو هذه العصر‮. ‬جورجي زيدان علي سبيل المثال كتب أن هناك روايات لنقولا حداد كتبها بنفسه لكن طبعها بصفتها مترجمة من أجل البيع وتحقيق الربح التجاري‮. ‬وجدت له رواية آخري‮ ‬يفترض أنها مترجمة،‮ ‬لكن في بداية الرواية كتب بيتين من الشعر كأحجية تفهم منها أنه الكاتب والمؤلف الحقيقي‮. ‬بعض مترجمي هذا العصر حتي حينما كان‮ ‬يترجم لم‮ ‬يكن‮ ‬يذكر اسم الكاتب الأصلي أو‮ ‬يضع إشارة بأول حرفين في اسم الكاتب‮. ‬احتاج الأمر مني لرحلة بحث طويلة،‮ ‬علي سبيل المثال الرواية الاسترالية التي ذكرتها وتدور حول الكاهن الفرعوني الذي‮ ‬يستيقظ أخذت أبحث في كل الروايات ذات التيمة الفرعونية التي نشرت في القرن التاسع عشر،‮ ‬ووصلت مع تضييق البحث إلي الكاتب الأسترالي‮.‬
أحياناً‮ ‬يجب أن تفهم السياقات الأدبية الفرنسية والانجليزية في ذلك الوقت‮. ‬هناك رواية لنقولا رزق الله‮ ‬يفترض أنها مترجمة،‮ ‬لكن الرواية تبدأ بزواج ماركيز وبنت لصائغ‮ ‬من عامة الشعب‮. ‬هذه بوضوح‮ ‬يستحيل أن تكون رواية فرنسية‮. ‬لأن مثل هذا الزواج لم‮ ‬يكن ممكناً‮ ‬اجتماعياً،‮ ‬وإذا حدث في رواية فستكون قصة الحب والزواج هي موضوع الرواية وليست مجرد حدث هامشي في بداية الرواية‮.‬
‮-‬كل هذه الأسماء والتجارب الروائية،‮ ‬كيف‮  ‬انتهت واضمحلت الرواية الشعبية بعد ذلك،‮ ‬ولماذا تم تهميشها من التاريخ الأدبي الرسمي؟
المؤسسة الأدبية والنقدية اختطفت الأدب من الناس‮. ‬فمنذ بداية القرن العشرين نظر المثقفون الإصلاحيون إلي السرد الحديث باعتباره نوعاً‮ ‬من الربط الاجتماعي،‮ ‬سيعد المصريين من خلال تعليمهم وتحسين الشخصية الجمعية لهم للمواطنة في الدولة‮/ ‬الأمة الحديثة‮. ‬لهذا كانوا في عداء علي سبيل المثال مع السرد الشعبي باعتباره النقيض للسرد الحديث‮. ‬ألقوا باللوم علي الحكواتي في المقاهي والسير الشعبية كأسباب مباشرة لانتشار عادات الكسل والإيمان بالخرافة‮.‬
لذا فعندما تشكلت المؤسسات الأدبية والنقدية في الثلاثينات مع مجلة الكاتب وطه حسين والجامعة كذلك ترسخت هذه الأفكار،‮ ‬وزاد التهميش للرواية الشعبية وطردها تماماً‮ ‬من المؤسسة الأدبية مع ثورة‮ ‬يوليو التي منحت هذه المؤسسات سلطة أكبر‮. ‬لهذا ففي الوقت الذي كان في‮  ‬أوروبا‮ ‬يتم التعامل مع الأدب كفضاء متنوع ومع الروايات الشعبية سواء بوليسية أو دراميا كفنون مستقلة أولتها جانباً‮ ‬من الاهتمام والدراسة،‮ ‬أسقطت المؤسسة الأدبية في مصر هذا الأمر‮. ‬
هذا الخوف من الروايات الشعبية لا‮ ‬يزال مستمرا حتي الآن،‮ ‬ويمكن أن نلمحه بوضوح في القلق والعنف الذي تواجه به المؤسسة الأدبية الروايات الشعبية الأعلي مبيعاً‮ ‬الآن خصوصاً‮ ‬حينما‮ ‬يتعلق الأمر بأسماء كأحمد مراد أو علاء الأسواني أو‮ ‬غيرهم من كتاب أدب الرعب الشباب الآن‮.‬
‮-‬في هذا السياق هل‮ ‬يمكن القول أن تلك المؤسسة ساهمت في تحجيم أسماء وأعمال آخري لأنها تماشت مع تلك الأفكار التنويرية؟
لا أستطيع أن أجازف بتأييد هذا تماماً‮. ‬كتاب الرواية القومية رغم قلة جمهورهم منذ بدايتها وحتي الآن،‮ ‬لكنه جمهور نوعي وثقيل وغالباً‮ ‬منتج للثقافة والفنون‮. ‬وهم‮ ‬غالباً‮ ‬من‮ ‬يحملون أفكار الهوية،‮ ‬والخطاب الأساسي المحوري للهوية العربية الحديثة وجدلها‮ ‬يتشكل من هؤلاء،‮ ‬حتي لو كانوا‮ ‬غير معروفين علي مستوي جماهيري‮. ‬لكني أعتقد أن المؤسسة الأدبية وكتاب الرواية القومية كان لديهم خوف عميق من الخيال‮.‬
الخيال هو العنصر الأبرز في الرواية الشعبية‮. ‬وفي هذا الوقت كان خيال الرواية الشعبية‮ ‬يتجول كيفما شاء بين نطاق سريع التغيير من شخصيات وعواصم حضرية مبالغ‮ ‬فيها،‮ ‬قدمت الرواية الشعبية رؤية جذابة للدراما والفساد في قلب المدينة الحديثة‮. ‬كان هناك روايات تدور أحداثها في بومباي أو بوينس آيرس أو باريس‮. ‬وكانت القاهرة هي باريس والعكس،‮ ‬ومن ثم ارتكبت الرواية الشعبية الخطيئة الكبري وهي تجنب الجدلية الاستعمارية كلية وسرد حكاية‮ "‬الهروب من الواقع المصري‮". ‬بالتالي هذا السردية والخيال المنفلت تم تهميشه وتهجيره من الأدب للسينما والمسلسلات التليفزيونية‮.‬
‮-‬السؤال الأخير هنا،‮ ‬كيف‮ ‬يمكن قراءة كل هذه الأعمال والروايات والاطلاع عليها،‮ ‬ما هي مصادرك التي اعتمدت عليها في الوصول إلي هذه المادة؟
عثرت علي أعداد ومستنسخات قليلة جداً‮ ‬من سلسلة مسامرات الشعب من أحد تجار سوق الأزبكية،‮ ‬لكني اعتمدت بشكل أساسي علي أرشيف دار الكتب‮. ‬حيث عثرت علي السلسلة حينما كنت أعد لرسالة الدكتوراه،‮ ‬لكن للأسف بعد الثورة حينما طلبت الاطلاع عليها لم أعثر علي كل الروايات التي كانت موجودة،‮ ‬هناك روايات اختفت وروايات آخري تائهة‮ ‬في أرشيف دار الكتب‮.



احمد الناجي

mercredi 16 septembre 2015

المغردون  خارج السرب

المغردون خارج السرب


نبيل محمود







لشاعر نبيل محمود


حاورته: بشرى رسوان



كلُّ جديدٍ، كانَ وعْداً، بعْدَ يأسِ
وكلُّ وعْدٍ، صارَ عبئاً، بعْدَ بأسِ


1 كيف قضى نبيل محمود طفولته ؟
كانت معالم الريف تتخلل أحياء بغداد حتى الثلث الأخير من القرن العشرين، بساتين وسواقي ودجلة بحضوره المهيمن.. كنا نسكن حينها قريباً منه. وكانت الأصياف على ضفافه وتعلم السباحة فيه من أمتع الأوقات. لكن الأمر لم يكن يخلو من شظف العيش والمنغصات فأنا من عائلة بسيطة، وما كان يخفف من ذلك هو أن الفروق الاجتماعية في ذلك الوقت لم تكن كبيرة جداً. ومهما تكن قسوة الطفولة فهناك قوتان تدعمان النفس، قوة الحلم وقوة الطموح ومتى ما فقدهما الانسان فسينكسر بسهولة. خاصة قوة الحلم فهي التي نحتاجها لتحمل مشقات الحياة ومجابهة رعونتها وبشاعتها. التشبث بذلك الطفل الحالم حياً فينا هو الذي يجعلنا نتحمل أقسى الظروف. تظل حالة الطفولة بأحلامها الغضة، مهما اكتنفها من صعاب، هي النبع الذي تتدفق منه كل صور وتمثّلات ما يسمّى بـالعصر الذهبي.. والفردوس المفقود!

2 لمن يقرأ نبيل محمود وبمن تأثر ؟
أستطيع أن أقول على سبيل الدعابة إنني أقرأ لكل من يكتب! طبعاً بحدود ما يسمح به الوقت وتوفر المكتوب.. لا أضع شروطاً أو ضوابط للقراءة ولا يحتكرني كاتب محدد أو موضوع واحد..! ويبقى المحدّد الرئيس هو الوقت والظرف والمزاج.
أما قضية التأثر فتحكمه الرؤية الفكرية والجمالية للكاتب. ومبدئياً لا أقبل كاتباُ أو أرفضه بشكل مطلق.. فالقراءة علاقة تفاعلية شديدة التعقيد، ولكل مرحلة من مراحل حياة الانسان حاجاتها الحياتية والفكرية والجمالية. تأثرت في فترة الصبا بالقصص البوليسية! ويبدو أنها كانت مفيدة في تعزيز البنية المنطقية لذهني.. وفي فترة الشباب جاءت تلك الاكتشافات لعوالم الانسان الاجتماعية والنفسية للمبدعين الكبار. فديستويفسكي ونجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان وغابرييل غارسيا ماركيز.. إلخ حفروا عميقاً في النفس آثاراً لا يمكن نسيانها. والشعر خصوصاً الحديث منه (فقد كرّهتنا المناهج التعليمية بالشعر العربي الكلاسيكي!).. وفي مرحلة لاحقة جاءت القراءة لأهم التيارات الفكرية للقرن العشرين وأقصد هنا الماركسية والوجودية والتحليل النفسي..

3ماذا يمثل لك الكِتاب؟
بإيجاز الكتاب هو أسفار في الأمكنة والأزمنة والأفكار التي لا تمهلنا حياتنا القصيرة والمحدودة الامكانية والوقت للقيام بها.. الكتاب هو كالمشاهدة الداخلية لبيوت الآخرين وغرفهم الخاصة ومعاينة عوالمهم السرية.. فيما الانسان المحروم من القراءة مسافر يكتفي بالمشاهدة الخارجية للعالم والحياة.. الكتاب هو باب ندخل منه إلى عقل العالم وقلبه!


4كيف ومتى تولد قصيدة نبيل محمود ؟
القصيدة لا تولد بل تكون! ولها تاريخ قبل وأثناء الكتابة. عناصرها موجودة في العالم وفي النفس.. وتلك الشرارة والحاجة الآنية للكتابة تحدّد المسار التكويني للقصيدة. وتسهم خبرة ولغة وثقافة الكاتب في استيلاد الصور من العناصر الكامنة داخله. لا أؤرّخ قصائدي بتاريخ.. فعادة ما تستغرق القصيدة وقتاً طويلاً لتستقر في صياغتها النهائية. لا أحمل على محمل الجد ما يسمى الوحي والإلهام، فالكتابة عمل جاد ومضنٍ، بناء وهدم، نقش وشطب.. الكتابة هي إعادة الكتابة مرات ومرات..

5برأيك هل توقفنا -كمجتمع- عن القراءة؟ وما هي الأسباب ؟
إن هذا يبدو صحيحاً جزئياً ولكن علينا ألا نغفل أن العالم يخوض تجربة معرفية جديدة، في عصر المعلوماتية والنت، ويصعب الحكم عليها الآن قبل التحقق من نتاجها ومآلاتها. يحدث هذا ومجتمعاتنا تمر بمخاض عسير وهي عالقة في عنق زجاجة، مرحلة تاريخية انتقالية حاسمة وفاصلة. أمام أختيار مصيري بين التحنط وفق تقاليد وانماط عيش وتفكير خاضعة للعصر الوسيط فالموت، أو التحوّل الجذري والحاسم إلى مجتمعات حديثة، أي الحياة وفق القانون الذهبي (التغيّر والتطور).. وأزمة العزوف عن القراءة (ضمن أزمات أخرى كثيرة وعميقة) هي عرض ومظهر لتلك المشكلة الوجودية الكبرى التي تواجه مجتمعاتنا.. فالتوقف عن القراءة هو كالتوقف عن الحياة والحلم في كل المجالات. هل نحن في حالة احتضار أو نحن بصدد ولادة كبرى؟ شخصياً أميل للتفاؤل على المدى البعيد وإن كانت مؤشرات الحاضر والمدى المنظور القريب تدعو للتشاؤم ؟! وكما يقول جوزيه ساراماغو (الوحيدون المهتمون بتغيير العالم هم المتشائمون، فالمتفائلون سعداء بما يملكون).. فهل سنتغير؟!

6هل تعتقد أننا أجرمنا بحق الثقافة والحضارة العربية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ ؟
أرى في هذا السؤال مغالطة، فنحن أجرمنا ونجرم بحق أنفسنا وحاضرنا أولاً وقبل كل شيء! فالثقافة والحضارة تكون حين يحيا الناس حياتهم الراهنة بكل عمقها وبقدر ما يبدعون في حل مشاكلهم وبناء حياة أفضل وأجمل فأنهم يبنون صرح حضارة جديدة.. هكذا أسّس القدامى الثقافة والحضارة عندما عاشوا حاضرهم وهم يتطلعون إلى المستقبل.. فلو نظروا إلى الماضي ونماذجه لما أنجزوا شيئاً! فلماذا علينا نحن الالتفات إلى الخلف؟ ولم لا نحيا الحياة بكل عنفوانها لنخلق كما خلقوا ثقافة وحضارة جديدة؟ إن ثنائيات الأصالة/المعاصرة، التراث/الحداثة.. إلخ هي مقابلات خادعة ومضللة ومعطلة للحياة والعقل والابداع.. عيشوا حياتكم الآن وحلّوا مشاكلكم وفق شروط وحاجات المستقبل ستنجزون حضارة أرقى بكثير من حضارات الاسلاف.. فلأطرح السؤال بشكله الصحيح: لو ظل الانسان يهتدي بسلفه ويقلده كنموذج أمثل هل كان سيغادر الكهف ويسكن ناطحات السحاب ويطأ تراب القمر؟!

7 هل يعتبر الشعر اليوم (ديوان العرب) أم أن الرواية احتلت مكانه ؟
إن استخدامنا لمصطلحات مثل (ديوان العرب) خاص بوجود اجتماعي مضمحل- قبائل وجماعات بشرية متنقلة- لوصف وجودنا الاجتماعي المختلف كلياً خطأ نظري كبير. فمجتمعات اليوم مندمجة في كيانات سياسية (دول) لها مؤسساتها وأنساقها الفكرية المختلفة جوهرياً عن الوجود الاجتماعي القديم. فالتعبيرات الأدبية باتت ذات أدوار ووظائف مختلفة. فالشعر مثلاً بات اليوم تعبيراً عن الوجدان الفردي للانسان، وهجر تلك الأغراض القديمة مثل تسجيل نشاطات القبيلة والانتصار لها، تاركاً للعلوم الاجتماعة المجال لما كانت تقوم به هي بشكل بدائي قديماً. والرواية كجنس أدبي تعبّر بأصواتها المتعدّدة عبر شخصيات متفاعلة ومشتبكة في علاقات اجتماعية ووجدانية وعاطفية معقدة في زمن متعدّد ومتشعّب.. هي كالشعر تنتمي لبيئة المدينة وإن كان الشعر ألصق بالوجدان الفردي، فالرواية منهمكة بالوجدان الاجتماعي والزمني المعقد والمتشابك.. يثري أحدهما الآخر ويمده بوسائل تعبير أكثر غنى.. وتتداخل عوالمهما ويُغني أحدهما الآخر. فالانسان لن يستغني عن الشعر ولا عن السرد. ويمكن أن نتوقع مثلاً أنهما ربما سيتداخلان ويذوبان في جنس أدبي يقدم نصاً يستوعب كل حاجات الانسان الوجدانية والجمالية. فهناك مؤشرات واضحة على تشبع الأعمال الروائية بالشعرية وحضور الخصائص السردية في بنية القصيدة الحديثة.. وهذا أمر متروك للمستقبل ولحاجات الانسان الجمالية..

8 دوما كانت علاقة الأنظمة بالمفكر علاقة مبنية على القمع والتعسف، كيف ترى حرية الرأي والتعبير في العالم العربي ونحن الان في الألفية الثالثة؟
إقامة علاقة تعارض بين المفكر/ النظام بشكل مطلق يحجب جانباً كبيراً من الحقيقة. أليس لكل نظام مفكريه الكبار أيضاً ؟! أوَ ليس أغلبية المفكرين ينطلقون من مقولات ومفاهيم النظام السائد عموماً ؟! لابد من التمييز والتحديد هنا. ففي كل نظام اجتماعي هناك ثقافتان وفكران وأكثر أحياناً، واحدة هي السائدة والمهيمنة والمتماهية مع السلطة القائمة وأغلب المفكرين ينتمون لهذا الفريق حتى الذين ينحون منحىً اصلاحياً ونقدياً بحدود معينة ولن يذهبوا إلى الحد الذي يهدّد النظام تهديداً خطيراً. وهؤلاء هم الذين يشكّلون ويوجّهون الرأي العام. أما الفريق الآخر المعارض والناقد جذرياً للنظام القائم وخاصة في حالات أزمته (وقد يحدث أن ينتقل أفراد من الفريق الأول إلى هذا الموقع حين ييأسون من النظام المأزوم وقابلية اصلاحه.) هذا الفريق من المفكرين (والذي يوصف غالباً بالمغردين خارج السرب) هو الذي يكون عرضة للقمع وأول قامعيه هم مفكرو النظام والمبرّرين له، وهم الذين يوفرون الغطاء الفكري لبطش الأنظمة بالمفكرين المعارضين. إن حرية الرأي والتعبير لن تكون مكفولة بشكل كامل إلاّ في ظل أنظمة قوية ومستقرة بحيث لن يكون لديها الكثير من العيوب الخطيرة لكي تخشى النقد فتقمع حرية الفكر والتعبير. إن الأنظمة التي تعيش في حالة أزمات عميقة وآيلة للانهيار هي التي تخشى النقد فتمارس أقسى درجات التضييق والقمع ضد حرية الفكر والتعبير. فهل أنظمة العالم العربي هي أنظمة قوية ومستقرة؟ أو هي أنظمة في حالة أزمة؟ الاجابة على هذا السؤال تجيب عن اشكالية الفكر وحريته عندنا!

9برأيك هل خدم العالم الافتراضي النشر، وقطع يد الرقيب التي تمتد لقص أوراق الكاتب ؟
إن ما يسمّى بـ (العالم الافتراضي) هو الحقيقة الأكثر إثارة في حياتنا المعاصرة. وقد تكون آثارها المستقبلية أعمق أثراً على الوعي الانساني من ظهور الطباعة والصحافة في عصر النهضة. وإذا كان هيجل قد وصف الصحف في زمانه بـ (صلاة العصر الصباحية).. فقد تكون شبكات التواصل الاجتماعي والمعلوماتية الآن هي بهجة العقل وفرحه الأكبر! فهذا الوليد سيحرّر العقل ليس من الرقابة التقليدية فحسب، وإنما سيحرّره من أعباء الحفظ والذاكرة. فبضغط مفتاح فقط تنبسط أمامنا كمية هائلة من المعلومات التي كان العقل يُنهك جزءاً هاماً منه بوظيفة الحفظ. وبمجرد الطبع على لوحة المفاتيح تحلق أفكارنا في مختلف البقاع والاتجاهات.. صرنا نكتب ونصمم وننشر بنفس سرعة التخيّل والتفكير. إننا نتجاوز ما فرضه العصر السابق من تخصص وتشتت للكلية الانسانية.. إننا نستعيد سلطات كانت قد أُستلبت منا باسم التخصص. وأمر آخر لا يخلو من أهمية فائقة لقد زال ذلك الحاجز بين الكاتب والقارئ، وتحولا إلى علاقة تفاعل فوري متجاوزين علاقة التلقي القديمة عبر وسطاء، إلى الحد الذي بات فيه القارئ أحياناً يتدخل ويعدّل النص المنشور بإرادة الكاتب إذا اقتنع برأي القارئ. إن إمكانيات هائلة تنتظر الكتابة والنشر فالأمر ما زال في بدايته!

السماء في مدينتي
مشنوقةٌ بالأسلاك
والزرقة مذبوحةٌ
فوق طرقها الإسفلتيّة
والبشر آهات مكتومة
10كيف ترى الواقع المأزوم في بلدك ؟ ومتى سينعم المواطن العراقي بالسلام ؟
ألخّص ردّي بهذا المقطع من قصيدتي (إثم السؤال)...
(كلّما اتّسعتْ بغداد
ضاقت غرفتي واشتدّتْ غربتي!
يا عروس تاريخ ذابل
يلاحقك مصير بابل
رغم برجها وجنائنها والزقورات
كانوا يصعدون منها إلى الله..
إلاّ أنها لمْ تسْلمْ من الدمار
أقصى صعودها سقوط
ضيّعنا الإنسانَ ولمْ نحظَ بالإله !
جفّتْ وردتكِ بغداد
يا معشوقة التتارْ
من سيضرم، أخيراً، فيك النارْ ؟!)

11ما ذا تقول عن أدونيس، محمود درويش، نزار قباني؟
قامات عالية وأضافات كبيرة في مجال الابداع الشعري والفكري. فأدونيس بالاضافة إلى قدراته الشعرية الباهرة له اسهامات فكرية بارزة مثل كتابه (الشعرية العربية) ولا يمر اسمه في ذهني إلاّ واستذكر بعض الماعاته الشعرية التكثيفية المنقوشة في ذهني مثلاً (لأنني أمشي/ أدركني نعشي)، على الرغم من قدراتي الضعيفة في حفظ الشعر!.
أما محمود درويش فهو يتنفس بلده فلسطين كما يتنفس الشعر ولا يمكن الفصل بينهما بأي شكل.. وما أروع قصائده مثل قصيدة ريتا والبندقية (إسم ريتا كان عيداً في فمي/ جسم ريتا كان عرساً في دمي).
نزار قباني صنع عالماً خاصاً بغنى ورشاقة مفرداته وصوره. وقد يؤخذ عليه أنه قد تغنّى بـ (أنوثة) المرأة أكثر من صورها الاجتماعية وحالاتها الانسانية الأخرى. لقد قدم نقداً لاذعاً لزمن التردّي العربي، وقد كانت فاجعته ببلقيس وظروف مقتلها الدموي استباقاً لما سيعم الأرض العربية من تفجّرات وانفجارات وخسارات مأساوية!

12أثارت قصيدة النثر جدلا واسعا منذ بداية ظهورها فبينما يرى البعض انها دخيلة على الأدب العربي، يرى البعض الاخر انها نمط شعري جديد، برأيك هل ستصمد طويلا أم انها مجرد سحابة صيف عابرة؟
كأي جديد ستظل قصيدة النثر تجتهد لارساء أسسها وفرض رؤاها وتأكيد ضرورة وجودها. إن قصيدة النثر ليست وليدة رغبة ذاتية بل ضرورة تعبيرية فرضتها (في الغرب أو عندنا) شروط وظروف الحياة الحديثة، أقصد نشوء المدينة الحديثة. فقصيدة النثر ابنة المدينة الحديثة حالها حال الرواية. والحديث عن كونها دخيلة علينا و(استيرادها) من الغرب يماثل القول أن مدننا هي الأخرى دخيلة على حياتنا ووجودنا ؟! وعلى العقل الذي ينظر إلى قصيدة النثر من هذه الزاوية ولكي يكون متسقاً مع ذاته في أحكامه، أن يمضي إلى النهاية ويعترف أن وجودنا الحديث كله دخيل؟!.. في كتابها (قصيدة النثر.. ) (وهو الكتاب الأكثر إحاطة بموضوع قصيدة النثر وظروف نشأتها) تدقق سوزان برنار كثيراً في ظروف وشروط قصيدة النثر وقدرتها التعبيرية القادرة على التعبير شكلاً ومضموناً عن النظام والفوضى التي تتجاذب الانسان في المدينة الحديثة. إن السبق الزمني لا يعني مطلقاً السبق المنطقي!.. فبما أن المدينة الأوربية الحديثة أسبق تاريخياً من مدننا الحديثة لذا كان من الطبيعي أن تكون قصيدة النثر أسبق في الظهور لديهم. أما الارتباط السببي المنطقي الضروري فهو مرتبط بنشوء المدينة الحديثة، وليس التقليد لجنس أدبي. إن نماذج من قصيدة النثر العربية لروادها الأوائل يؤكد إنها ظاهرة نابعة من حاجة داخلية عميقة وهي مستمرة في الازدهار ما دامت هذه الحاجة قائمة. أما الاحتجاج بنماذج رديئة من التعبير (يُتوهّم) أنها تنتمي لقصيدة النثر فهي حجة متهافتة، لأن لكل جنس أدبي ولكل ابداع عموماً نسخه المقلدة والزائفة والرديئة!..

13ما هي معايير الشعر الحديث؟
إن الكثير من الشعر الحديث، متخمٌ بتهويمات لفظية وتراكيب لغوية مبتكرة على صعيد الجملة. لكنّه هائم وشبحي على صعيد القصيدة. لا نكاد نلمس فيها الوحدة العضوية، فيرتبك المعنى أو يضيع. إن البناء العضوي المتماسك للقصيدة يمنعها من التبدّد في متاهات لفظية، فيقود المعنى الألفاظَ حتى التوهّج الشعري. يقول عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة (إذ الألفاظ خدم المعاني والمصرّفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها، المستحقة طاعتها. فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشئ عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنّة الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب، والتعرّض للشيْن.) الألفاظ لا تبهرنا كألفاظ بل طريقة استخدامها وسياقها ومعناها المبتكر والجديد. إننا نفرّط بالشعر، والفن عموما، إذا اتّجهنا إلى البحث عن قيمة نفعية له، كما في العلوم الاجتماعية، فما يضيفه أو يغيّره الفن في الوجدان الفردي للإنسان هو خارج الحسابات الكمية. فالشعر يبعث الدفء والطمأنينة في الوجدان الفردي للإنسان المنهك في ليل الوجود الموحش, ويطلّ على الأزلي في عالم حافل بالعابر والمتغير. إن الشعر والفن عموماً يغيّر حسّنا الجمالي بالعالم.. فأنا أعتقد بما أسمّيه الخلاص الجمالي.
(إن الجمال سينقذ العالم.) (ديستويفسكي)

14هل تؤمن بعبارة (أجمل الشعر أكذبه.) ؟
الشعر بشاعره، فكيفما يكون الشاعر يكون الشعر. إن الكذب هو (حكم قيمة) وربطه بالشعر صدر من رؤية أيديولوجية وسيطية كانت تبحث عن أتباع ولا تطيق الإبداع! وتطمح إلى كبح الإبداع وتوظيفه لمصلحتها. لذلك وُصم الشعر بالغواية. أيّ بحث ودرس للشعر ينطلق من حكم القيمة لن يكون في صالح الشعر وكل ابداع عموماً. الإبداع الحقيقي الخلاق لا ينتج الكذب إنما هو يوسّع من مساحة حرية الانسان. وأهم مستلزمات هذا الفعل هو الخيال.. فهل فعل التخيّل المبدع يساوي الكذب أو هو شرط أساسي لاكتشاف الأفضل والأجمل؟. باختصار الشعر وكل ابداع يرتبط ارتباطاً ضرورياً بالحرية ولا يرتبط بأحكام القيمة التي تكرّس الوضع الراهن وتؤبده!
15 يقول الرفاعي عن الأنثى (من أجل أنها أنثى قد خُلقت لتلد, خُلق لها قلب يحمل الهموم ويلدها ويربيها. ) ماذا يقول نبيل محمود؟
بمجرد أن نطلق على المرأة لفظ (الأنثى) فقد عرفناها بيولوجياً وأنتقصنا من كينونتها الانسانية. فهل يستسيغ أي رجل أن نخاطبه بالذكر بدل الرجل؟! لذلك لا أحبذ استخدام لفظ الأنثى الذي يعني جوهرياً المرأة ناقصاً الانسان! فلا يظل منها حينذاك سوى الأنثى!. ((يتضمّن تمجيد الطبع الأنثوي إذلالا للاّتي يتّصفن به جميعاً.)) (تيودور أدرنو، الأدب الصغير- أفكار ملتقطة من الحياة المشوهة). ففي ظل مجتمع وثقافة لم تتحول تحولاً حداثياً ناجزاً بعد، يكون التحدث عن حقوق وامتيازات المرأة من باب السجالات العقيمة. الأمر كله مرهون بنظام اجتماعي لم يتخلص بعد من التمييز بين الرجل والمرأة عل أساس الجنس، إلى جانب أشكال التمييز الأخرى على أساس العرق والثروة والسلطة.. إلخ. يقول شارل فورييه ما معناه (إن مدى تحضر المجتمعات يقاس بمدى تحرر المرأة..) ومن يود قراءة رأيي بالتفصيل حول الموضوع يمكنه الرجوع إلى مقالتي (عيد المرأة والرياء الذكوري _ الحوار المتمدن)


16أصدرت ديوانك (رزايا الحكمة المتأخرة) سنة 2013 ؟ لماذا (المتأخرة)؟ وكيف كانت التجربة؟
هنا (المتأخرة) تعبر عن تلك المفارقة الحزينة في حياة الانسان. ففي بدء حياته وهو مشبع بالطاقة والحيوية والحماسة يفتقر للمعرفة والحكمة، وحين تتقدم به السن ويكتسب المعرفة والحكمة تكون طاقته قد شارفت على النضوب! وهذا من طبيعة الأشياء التي عبر عنها هيجل في مقدمة كتابه (أصول فلسفة الحق) بقوله (إن الفلسفة تصل متأخرة بعد أن يرخي الليل سدوله..) أي أن معرفة الشئ الجوهرية لا تتحقق إلاّ بعد اكتمال تحقق الوجود الفعلي.. وبالمعنى ذاته تقريباً يقول الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو في سيرته الذاتية الذكريات الصغيرة (لا الشباب يعرف ما يستطيع، ولا الشيخوخة تستطيع ما تعرف).. إنها مفارقة ملازمة للوعي الانساني سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي.. كلفت وتكلف البشرية آلاماً ودماء، وكانت أغلب قصائد الديوان مشبعة بهذه المفارقة التي تبعث على الأسى!..

17ما هي مشاريعك المستقبلية؟
إنتهيت من كتاب (تفاحات إيروس) قصائد ونصوص.. وهو قيد الطبع حالياً.




* نص ل نبيل محمود
(من ديوان المفارقات)


أضاءت وفاح الفالس
ذات ليلة شدّت الوشاح
غافلتْ هوس الرياح
اِندفعتْ إلى الداخل
اِنفلت شَعرها
كحكاية شتاء طويلة
أمام موقد الجمر
اِنسكب سحرها
في العروق
خلعتْ معطفها الغائم
ودخلت كالشمس
في أعماق القلب!
بدأ الحفل
وفاح الفالس
جرى الدانوب الأزرق
يسقي شطآن الروح
يعلو ويهبط
يهمس ويصخب
يصحو ويغفو
تصدح الأنغام والأضواء
كأمواج تموج من منابع الجمال..
***
مكث الجمال
يشعّ كالماس في الأعماق
تلاشى التصفيق
وانطفأ نور المكان
اِرتدتْ معطفها الغائم وغادرتْ
ولكنّ قلبي
ظَلّ يغنّي ويضيء
في كلّ الليالي
المسكونة بالبرد والوحشة
***
أنْ تسكن قلبكَ امرأة مضيئة
وأنْ تملأ روحكَ أنغام الفالس
فلنْ تكفّ، أبداً، عن التوهّج والغناء
إلاّ عند انطفاء الكون..!

* بطاقة الشاعر:
الاسم و النسب : نبيل محمود
تاريخ ومكان الازدياد : 1953 - بغداد


* اصدارات الشاعر :
- ديوان رزايا الحكمة المتأخرة...
- ديوان المفارقات
تحت الطبع:
- ديوان تفاحات إيروس



.
لماذا  يكتب   أمين الزواي

لماذا يكتب أمين الزواي

صورة ‏‎Hanan Katrib‎‏.
أمين الزاوي، كاتب وروائي وأكاديمي جزائري، ولد في 25 نوفمبر 1956، في بلدة مسيردة بولاية تلمسان حيث أكمل دراسته الابتدائية والاعدادية. حصل على شهادة الليسانس من معهد اللغة والأدب العربي في جامعة وهران مما أهله للالتحاق بجامعة دمشق لينال شهادة الدكتوراه في الأدب عن أطروحته حول موضوع: (صورة المثقف في رواية المغرب العربي). تولى الزاوي عدة مناصب، من أستاذ الأدب المغاربي والترجمة بكلية الآداب بجامعة وهران، ثم مدير قصر الثقافة بوهران، ليتوج مديرا عاما للمكتبة الوطنية، ويشتغل حاليا أستاذا بجامعة الجزائر المركزية في مادة الأدب المقارن، كما يشرف على مجموعة من طلبة الماجستير والدكتوراه.
له عدة روايات باللغة العربية منها: و يجيء الموج إمتدادا، كيف عبر طائر فينيقس البحر المتوسط، التراس، صهيل الجسد، السماء الثامنة، الرعشة، رائحة الأنثى، يصحو الحرير،وليمة الأكاذيب،شارع إبليس، حادي التيوس أو فتنة النفوس. و له روايات أخرى كتبها أصلا باللغة الفرنسية من أهمها: إغفاءة ميموزا، الخضوع، الغزوة، حرس النساء، ناس العطور، ثقافة الدم (دراسة)، غرفة العذراء المدنسة، يهودي تمنطيط الأخير.
……….

حاورته: بشرى الهلالي
يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وفي كلتيهما، يحدث قارئه بنفس الاسلوب، فهو لايكتب رواية فقط، وانما “تجئ أفكاره كالموج امتدادا” لتحلق في سماء الحرية التي يعشق “كما يعبر طائر الفينيق البحر المتوسط”. اقتحم المحظور، فكان اول من ولج “شارع ابليس” متحديا كل الاساليب والافكار القديمة، ومؤسسا لمدرسة جديدة في الرواية الجزائرية. عاصر التقلبات السياسية التي خيمت على أجواء بلده، وشهد زحف الفكر المتطرف، فكان في صدارة من تصدوا له، واضعا نصب عينه الانسان قيمة عليا، فكانت رواياته بانوراما لشخصيات يندر حضورها في الرواية العربية، واستحقت بجدارة صفة (العالمية). تمت ترجمتها الى اكثر من عشر لغات منها الصينية، الاسبانية، الانكليزية والإيطالية والصربية والتشيكية وحتى الإيرانية، ليكسر أمين الزاوي بذلك حواجز الجغرافية واللغة، مصحبا قارئه الى (السماء الثامنة).
لم تنفع (حفرياتي) كما اسماها، في حواري معه، فرغم اني حاولت ان أكثف الاسئلة، الا ان ماقاله لم يكن الا قطرة في بحر، فالحوار مع المفكر، الروائي، الكاتب، و الاكاديمي، د. أمين الزاوي يشعرك دائما، بأن مايقوله هو ليس الا مجرد بداية لحوارات لاتنتهي. مع روايته (نزهة الخاطر) وفلسفته في الكتابة، كانت البداية..
* في مستهل (نزهة الخاطر) قلت “مع ذلك قررت أن أحكي لكم ذلك النصف من الحياة الذي لم أعشه”، وختمت (وليمة الاكاذيب) بالقول “لكن لماذا احكي لكم كل هذا”؟ هل هو السؤال الازلي لماذا يكتب الكاتب، ولمن، وأين د. أمين الزاوي من هذا السؤال؟
أمين الزاوي: الكتابة فن الكذب الصادق !! أكتب لأنني أريد أن أعيش الحياة مضاعفة، أن أعيش اللحظة بأضعافها أن أرى الصورة من كل الجهات، الكتابة الروائية بالنسبة لي تقوم على الفلسفة التالية: الرواية التي تقول ما يعرفه القارئ هي رواية تولد ميتة، الرواية التي تقول ما يستطيع أو ما يجرؤ القارئ على قوله هي نص يولد ميتا، الرواية هي خارج المتوقع، هي قول ما لا يستطيع قوله القارئ، ما لا يعرفه القارئ. أكتب الرواية كي أثير حالة من “التشويش” ضد إيمانات القارئ، مشروعي الروائي هو مناهضة الإيمان الساذج، هو دفاع عن القلق و عن السؤال المستمر لمناهضة الكسل.
* تأريخيا، كسر رشيد بوجدرة في الستينات (التابو) او الثلاثي المحرّم: الدين، والجنس والسّياسة، تبعه الطاهر وطار.. فيما تلا ذلك وخلال التسعينات، اتخذ روائيو الجزائر التطرف ثيمة لموضوعاتهم، ليأتي امين الزاوي ويكسر المحظور في زمن التطرف، فاطلق عليه لقب (محطم التابوهات)، هل كنت رائدا أم فدائيا في اعادة رسم نهج الرواية الجزائرية، ام هو (الابداع) يفرض لغته عليك؟
أمين الزاوي: أختلف كثيرا مع رؤية الطاهر وطار للكتابة، فأنا أعتقد أن وطار كاتب سياسي، رواياته جميعها كانت مؤقتة على وضعيات تاريخية أو أحداث تاريخية محلية جزائرية، مع احترامي الكبير لمجهوده التأسيسي في الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، أما رشيد بوجدرة فقد بدأ كاتبا مثيرا للجدل ، مكسرا ، مجنونا، لكني شعرت بأنه تعب أو دجن في السنوات الأخيرة و أصبحت جرعة الجرأة لديه باردة جدا، مع ذلك أقول بأن رشيد بوجدرة لم يأخذ حقه في الرواية المكتوبة بالفرنسية. أنا أنتمي إلى جيل الاستقلال، متخلص من عقدة اللغة و من عقدة التاريخ، متصالح مع الآخر دون أحكام مسبقة، أكتب في انسجام مع العالم، انسجام لا يحمل من التوتر إلا ذلك التوتر الذي أشترك فيه مع جميع الروائيين في كل اللغات و في جميع الجغرافيات، توتر الكتابة أمام قلق سبب التوحش الديني الذي يهدد الإنسان، يعتبر النقاد و القراء مشروعي الروائي هو مشروع الدفاع عن الحرية الفردية، على خلاف الجيل الأول الذي كان دفاعه مركزا على الحرية الجماعية، أي الحرية الاستقلالية بمفهومها السياسي الوطني الضيق، أنا أنتمي إلى جيل من الكتاب الروائيين الذين يواجهون مشكلات أخرى، مشكلة التوحش الديني الذي أكل الأخضر و اليابس، التوحش الديني الإسلاموي أخطر من أي وباء تعرض له أو قد يتعرض له الإنسان على هذه الكرة الأرضية. مشروعي الروائي الذي بدأته منذ أن نشرت أولى رواياتي “صهيل الجسد” العام 1985 و التي تم منعها و مصادرتها في العالم العربي و سجن الناشر على إثر نشرها و شمعت دار النشر بدمشق، هو الحفر في الممنوع الديني و السياسي و الجنسي، و هي الممنوعات التي جعلت من الإنسان العربي وحشا في قفص. ما يمارسه الإنسان العربي تجاه المرأة، خاصة تجاه جسد المرأة، هو توحش حضاري بامتياز، كل ذلك باسم الدين و باسم الأخلاق المنافقة التي ورثها من عصور الاستبداد و عصور النخاسة، التي عادت اليوم باسم الدين و تحت راية الدين السياسي.
* حصلت على شهادة الدكتوراه في الأدب عن أطروحة بعنوان: (صورة المثقف في رواية المغرب العربي). هل تشغلك صورة المثقف العربي في الوقت الراهن؟ وكيف تراها في ظل تسارع الاحداث والمتغيرات؟
أمين الزاوي: المثقف كما أراه هو الجندي على جبهة النقد، لا مثقف بدون حس نقدي، نقد ينطلق بطبيعة الحال من المتن المعرفي و من الإبداع. للأسف في العالم العربي، يختلط “النقد” الذي يقدمه المثقف، و المؤسس على سلطة المعرفة و الفكر، و “المعارضة” التي يمارسها السياسي المؤسسة على “الانتهازية و التكتيك الموسمي”. و المستفيد من هذا الخلط هي الأنظمة الاستبدادية التي تريد أن تجعل نفسها منزهة عن كل خطأ، من هنا فنقد المثقف أو معارضة السياسي في رأيها شيء واحد، لهذا نشعر بتهميش المثقف من قبل أحزاب المعارضة لأنها تعتقد بأنها تقوم بعمله دون وجوده، و ترفضه الأنظمة لأنها تعتقد بأن نقده هو انقلاب عليها.
المثقف العربي بكاء، شكاء، و هي الحالة المرضية التي تفهمها الأنظمة بشكل جيد، و بالتالي بمجرد أن يكثر الشكاء البكاء من النحيب تعطيه “كيس” “دنانير” فيبلع لسانه، يعطيه للقط (كما نقول في التعبير الفرنسي).
* بينما تتحدث عن تبنيك للحداثة، تنهل معظم رواياتك من التراث، حتى يشعر من يقرأها بأنه يشم رائحة البخور في (الف ليلة وليلة). بل إن عناوين رواياتك تحاكي (طوق الحمامة) وتحوم حول روح الجاحظ، وتغوص في عشق ابن الرومي، في الوقت الذي يتطرف الكتّاب في اختيار العناوين الغريبة في سعيهم للحداثة، فما هو مفهوم الحداثة للدكتور الزاوي؟
أمين الزاوي: أنا أقرب إلى الجاحظ منه إلى هنري ميللر، أنا أقرب إلى السيوطي منه إلى جورج بطاي، أنا أقرب إلى النفزاوي منه إلى جون جونيه، أنا أقرب إلى أبي نواس منه إلى رامبو… أعتقد بأن مأساة الثقافة العربية الحداثية هي أنها سلمت هذا الإرث الكبير من التنوير و التقدم و الجرأة الفكرية و الموضوعاتية، سلمته إلى الفقهاء السلفيين المتحجرين، تراثنا التنويري أعدمه الفقهاء المعاصرون، الخوف في الثقافة العربية هو خوفان: خوف من الثقافة العربية التراثية الجريئة في الفلسفة و الشعر و اللغة و الدين و الجنس من جهة و خوف من ثقافة الآخر الانسانية التي هي اتصال و تواصل مع ثقافة التنوير العربية الإسلامية. لقد جفف الفقهاء الثقافة العربية من كل نور و من كل متعة و أوصلوا بها إلى باب الممنوع و الحرام و قطع اليد و قطع الرقبة.
* قلت مرة “اكتب على سمفونية امي”.. فما هي طقوس الكتابة لأمين الزاوي؟
أمين الزاوي: الأم و الطفولة مركزيان أساسيان في الكتابة، أمي رحمها الله كانت امرأة جميلة تثير غيرة جميع النساء من حولها، تغني بشكل استثنائي و ترقص برقة الطير، منها تعلمت حضارة التعامل مع الآخر، فن الحياة، تعلمت فن الحياة قبل فن الكتابة، كانت مدرستي في الرقة و كانت مكتبتي في الثقافة الشعبية و الفن. حتى اليوم حين أكتب لا زلت أسمع صوتها و هي تحدثني أو تغني أو تدندن أو أراها في مخيلتي ترقص كالحمامة، و الناس من حولها يصفقون، كانت امرأة خجولة و لها في ذلك سر عظيم، أكتب بالفرنسية أو بالعربية فأجدها في رأسي هي من توقع موسيقى النص، الرواية بالنسبة لي ، قبل أن تكون كتابة و لغة هي عبارة عن إيقاع موسيقي في رأسي، أدندن الرواية كما يدندن الموسيقار مقطوعته قبل أن يكتبها أو يعزفها.
* حدث بأن بعض القراء أحرقوا كتابك (السماء الثامنة) امام المكتبة، وعلق بعض القراء بأن (حادي التيوس) ليست اكثر من هوس كاتب بالجنس، بينما أخذ عليك البعض الغوص في العلاقات المحرمة، فهل ترى ان القارئ العربي لم يصل بعد الى مستوى فلسفة د. أمين الزاوي، أن انك تتحدى ماأسميته ب (ثقافة القطيع)؟
أمين الزاوي: رواية (حادي التيوس) أعتبرها من أجمل ما كتبت في مسألة الدين، هي رواية تتناول “خلفيات اعتناق الأوروبيات للإسلام”، ما وراء هذا الاعتناق، السياسة، الأمن، الحضارة، الجنس، و أعتقد أن هذه الرواية التي ستصدر باللغة الفرنسية قريبا سيكون لها شأن في النقد الفرنسي باعتبارها الرواية العربية الأولى التي تتعرض لهذه المشكلة. أما رواية (السماء الثامنة) فبالفعل تعرضت للحرق من قبل القارئ في الجزائر و منعت في كثير من معارض الكتب العربية، و أعتقد أنها أول نص روائي يعاني من القارئ، و أنا أخاف من القارئ المعرب أكثر ما أخاف من مؤسسات الدولة القمعية، قمع القارئ قمع غوغائي دون رادع، و هو دعوة لمصادرة القول و مصادرة الحياة أيضا، و لعل الأنظمة الاستبدادية تستفيد من توحش القارئ المعرب تجاه النصوص 

النقدية الجريئة و تجعلها حجة لتكميم الأفواه و أيضا للحد من الحريات باسم “الخوف من الفوضى”.
الأكاليل  الثلاثة

الأكاليل الثلاثة

صورة ‏صبحي فحماوي‏.
تناول الفرنسي فرانسوا جارد في روايته “الأكاليل الثلاثة” قضايا الهوية والانتماء والتعصب، مقاربا روابط الدم

 والتاريخ والجغرافيا، وتأثيراتها على بلورة صور نمطية أو مفترضة في الأذهان، وتحريكها للناس بهذا الاتجاه أو ذاك، أو دفعهم إلى التناحر والتحارب، انطلاقا من نقاط يفترضون أنها ثوابت وحقائق، في الوقت الذي تكون معرّضة للتشكيك، وقابلة للنقض والتفنيد بناء على معطيات جديدة يتم اكتشافها أو العثور عليها.
يتحدث جارد (1959) في روايته -التي نشرتها دار نينوى بترجمة بشرى أبو قاسم 2015 في دمشق- عن مهاجر أميركي من أصول لبنانية، يعمل قيّما على الوثائق الخاصة، يقوم بتصنيفها وترتيبها وفرزها، ينهض بمهمته التي كان يكتشف من خلالها كثيرا من أسرار الراحلين، وتفاصيل من حيواتهم، كانت مخفية عمن حولهم.
يثير جارد -وهو كاتب ودبلوماسي فرنسي- الأسئلة إزاء النسب والانتماء وتأثير روابط الدم والمكان والمجتمع في بلورة الهوية، ويصبو لطرح هوية إنسانية عابرة للحدود والأمكنة ومتسامية على روابط الدم، بل تنتصر للإنسان وقيمه، من دون أي تعصب أو تطرف أو عنصرية، وإبراز أن هذا الذي تعصب لجزيرته لم يكن منحدرا من دماء أهلها، بل كان منحدرا من دماء مستعمريها، لذلك فإن العداء للآخر يكون عداء للذات واستعداء لها بطريقة أو أخرى.
ربما ترمز الأكاليل الثلاثة التي يوظفها صاحب رواية “ماذا جرى للمتوحش الأبيض”، إلى الماضي والحاضر والمستقبل في وجه من وجوهها، كما ترمز إلى الهوية والانتماء والدم في وجه آخر، وإلى المال والسلطة والحرية في افتراض ثالث، وإلى الوهم والحلم والكابوس في قراءة أخرى؛ وتبقى مفتوحة على التأويلات لما 

تحمله من جاذبية متجددة.



mardi 15 septembre 2015

تفويض

تفويض


حذرني صديقي من اللعب بقدري
وهل في يدي أن أغير في سِفري
ما كان مكتوباً سيبقي
وعلى جاري أيامي ستجري
من أنا ألآن
إلاّ ما مكتوبٌ في دفتري
مشتاق لعائلتي وأصدقائي
غيري بما أعانيه لا يدري
جربت مختلف ألأحوال
من فرحٍ
ومن حزنٍ كغامق الحبرِ
أياماً عشتها كملكٍ
وأياماً عشتها
مدقعاً في فقرِ
سنين عشتها سعيداً
محاطاً بألأحباب
وسنين عشتها وحيداً
كساكنٍ في قفرِ
هذه الدنيا عجيبة في عجلتها
لا يعرف أحدٌ
كيف عجلة الدهر تسري
تضحكك لأيامٍ وتبكيك لأيامٍ
هل هناك سرٌ في ألأمر
من ذا الذي تصفى ساعاته كلها
تتراقص أوقات الناس
بين الرضى والكدر
لكن أيام حزني طالت
لا أدري متى ستنتهي
لا أدري
أفوضُ أمري
الى المحيط بكل شئٍ
لا يعرف نوماً
ولا يعاني من سهرِ
مذهلةٌ روح الكون
باقيةٌ أبد الدهرِ



شيرزاد همزاني