mardi 8 mars 2016

الرحيل قصه مترجمة


الرَحِيـْــل


جيمس بلدوين
ترجمة : خليل الشيخة
لَمْ يخالج فلورنس الشك بأن أمها أكبر النساء سناً في العالم، فقد كانت تروي لها ولأخيها جبرايل كثيراً عندما كانا طفلين عن عمرها المديد الذي لا يحصى بالسنوات، والذي تمتد جذوره إلى زمن العبودية الغابر. ولدت في مزرعة إحدى الولايات وترعرعت فيها، وعملت في الزراعة لكونها تتميز ببنية قوية. ومع مرور الأيام تزوجت وأنجبت أطفالاً انتزع معظمهم منها، أحدهم اختطفه المرض، وبيع اثنان في المزاد العلني، والأخير لم تقدر له السموات أن تحتضنه برعايتها وتربيتها، فقد نشأ في بيت السيد وتربى فيه. وعندما كانت في ريعان شبابها – في الثلاثين على الأغلب – اختطفت يد القدر زوجها فوهبها السيد لزوج آخر، في تلك الفترة اقتحمت جيوش من الشمال تلك المنطقة لينـزعوا نيـر العبودية عن رقاب العبيد الذين صلوا كثيراً من أجل الحرية، وها قد لبي النداء أخيراً، واستجابت السماء لدعواتهم.

* * *
انقضت سنوات عمرها على وتيرة واحدة، تستيقظ في الصباح
الباكر قبل أن تنشر الشمس جدائلها، فتندفع لتعمل في الحقول ما بين انحناء ووقوف، مادامت الشمس تحرق كبد السماء. وعندما يختفي ذلك القرص الذهبي خلف بوابات السماء، ويعلن المشرف بصفارته وبصوته الذي يتردد صداه عبر الحقول نهاية يوم شاق، تتجه عائدة إلى بيتها. وفي أيام الشتاء الثلجية عندما يتحول بيت السيد الكبير إلى شعلة من الأضواء وتذبح الخنازير والطيور، يرسل لها الطباخ (بات شيبا) بعضاً من تلك اللحوم وفوقها قطع من الحلوى، وما تستطيع أن تلتقطه يداه من بقايا مائدة السادة البيض.
وبالرغم من ذلك لم تكن أيامها تخلو من بعض اللحظات التي تبعث السرور في النفس، كلحظة تدخينها لغليونها كل مساء. ورؤيتها لزوجها في نهاية كل يوم منهك.. وإرضاعها لأطفالها وتعليمها إياهم الخطوات في السير، ولكن تلك اللحظات السعيدة لم تكن كفيلة بأن تطرد ذلك الإحساس الأليم الذي كان يتملكها ساعة الفراق، والموت وضرب السياط. لم تنس يوماً أن الخلاص الموعود آتٍ، فليس عليها إلاّ أن تتحلى بالصبر والثقة بالإله العادل. أدركت تمام الإدراك أن بيت الرياء والعجرفة الذي يسكنه الناس البيض لا بد أن ينهار يوماً. هذه هي شريعة السماء المعهودة، فالذين يتبخترون في الأرض تيهاً وضلالاً لا يملكون من الخير شيئاً لأنفسهم أو لذريتهم، فهم أشبه بأناس يسيرون على شفا وادٍ عميق مغمضي العيون، يقف الله لهم بالمرصاد ليبيد عجرفتهم ويسحقهم في بحر عميق، كما حدث ذات مرة مع قوم اليهود الخاسئين. يا لهم من بؤساء فنفوسهم الجوفاء ستتحطم يوماً لا ينفعهم غرورهم وعزهم الواهي، ولن يجدوا ما يدفع عنهم عاقبة الحساب الدنيوي. علاوة على ذلك، فقد أخبرت أولادها بأن الله عادل وحكيم لا يعاقب أناساً إلاّ بعد تحذيرهم لعدة مرات، حيث يمنحهم الله وقتاً لإعادة النظر في أعمالهم، وفي النهاية فإن كل شيء بيده. وسينبلج فجر ذلك اليوم الذي لن يكون هناك فيه مجال لعمل الخير أو الشر، فقط ستبقى زوبعة الموت تترصد أولئك الذين ألقوا الإله في غياهب النسيان.
طوال سنوات عمرها لم تخب تنبؤاتها، ولكن ما من أحد كان يعير انتباهاً لذلك، واليوم تحققت إحدى تنبؤاتها، حيث تسمع أصواتاً في الكوخ وأمام بوابة بيت السيد؛ تعلن أن العبيد قد هبوا للثورة، فأحرقوا في ولاية أخرى بيوت أسيادهم وحقولهم، كما أنهم رجموا أطفالهم بالحجارة حتى أردوهم قتلى، وقتل أحد العبيد سيده غير أنه لقي حتفه جراء فعلته هذه، وقد همس أحدهم، وكان واقفاً بجانبها في الحقل :
- لا أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك، علي الرحيل في الصباح إلى الشمال.
ملأت أخبار العبيد الرهيبة قلوب الناس قسوة ضد أسيادهم؛ الذين اعتقدوا أن السوط سيخمد النيران المشتعلة في قلوب العبيد، أو ربما ستكون الخناجر أو المشانق أو حتى البيع بالمزاد العلني في ساحة المدينة، سيكون كل ذلك رادعاً لنقمتهم الجامحة. خطر في ذهنهم أخيراً أن المعاملة اللطيفة من شأنها أن تحد من اندفاعهم، فما كان من السيد والسيدة إلاّ أن تخليا عن كبريائهما الزائف وقصدا الكوخ زائرين مبتسمين حاملين الهدايا معهما، تساءلت كثيراً عن ماهية الحياة السعيدة فيما إذا عاش البيض والسود حياة مشتركة، ولكن السعادة لا تدوم، فعندما تكتب المقادير في السماء فليس بوسع الأرض محوها، وها قد تحقق القدر الإلهي اليوم قبل أن تستيقظ الأم من سباتها، فمعظم الحكايات التي كانت ترويها الأم لم تكن تعني لفلورانس إلاّ شيئاً واحداً فقط، وهي أنها حكايات من امرأة عجوز سوداء تسردها على أبنائها لتطرد من أذهانهم شبح الجوع والبرد. لكن حكاية اليوم من نوع آخر تماماً، فهي حكاية لا يمكن أن يطويها النسيان، فقد بزغ فجر يوم طالما انتظرته وحلمت به، يوم شهد هروب الجبناء، ولعلعة الرصاص في الأجواء.
وما أن فتحت الأم عينيها حتى خيل إليها كأنه يوم الحساب العظيم، وبينما هي قابعة في مكانها مذهولة متسائلة عن سر هذا اليوم الغريب، دخل بات شيبا إلى الكوخ وقد اندفع وراءه عدد من الأولاد المضطربين وعمال الحقول وعبيد القصر، وصرخوا جميعاً بصوت واحد: انهضي.. انهضي يا أخت راشيل وشاهدي الخلاص الإلهي، لقد برّ الله بوعده لنا، وأصبحنا أحراراً.
أمسكها بات شيبا والدموع تنساب على خديها، لبست ثيابها واتجهت نحو الباب لتشهد اليوم العظيم الذي وهبه الله لهم. في ذلك اليوم رأت بيت الكبرياء يخر ذليلاً، وقد ألقيت من نوافذه ملابس الحرير الخضراء والمخملية، كما رأت العديد من الفرسان يسحقون الحديقة بأقدامهم ويشرعون البوابة الكبيرة على مصراعيها، كان في داخل ذلك القصر الكبير السيد والسيدة وأنسباؤهما وولدها؛ الذي انتزع منها وبقي في القصر حيث لم يسمح لها بالدخول إليه، والآن ليس هناك من سبب يمنعها من عبور البوابة الكبيرة. حزمت أشياءها في قطعة من القماش ووضعتها على رأسها وخرجت باتجاه البوابة الكبيرة وقد اتخذت قراراً بعدم العودة ثانية إلى هذه الولاية.
عندما أصبحت ابنتها فلورانس في ريعان شبابها أصبح حلمها المنشود هو الرحيل عن هذا الكوخ.
وفي عام 1900 عندما كانت فلورانس في سن السادسة والعشرين خرجت من الكوخ مقررة الرحيل، ولكن فكرت بأن تؤجل هذا الأمر إلى أن تختطف يد القدر والدتها التي تعاني من سكرات الموت على فراشها، أحست فجأة أن انتظارها لن يطول فالزمن المرتقب في طريقه إليها. كانت فلورانس تعمل خادمة عند إحدى العائلات البيض الكبيرة في المدينة، وفي اليوم الذي قرر فيه سيدها أن يتخذها خليلة له صممت على إنهاء خدمتها عند هؤلاء الناس ذوي النفوس الدنيئة، فغادرت البيت مخلفة وراءها مرارة قاسية، وبجزء من أتعابها الذي ادخرته عن طريق المعاناة والتضحية لعدة سنوات ابتاعت بطاقة سفر بالقطار إلى نيويورك، وعند حصولها على البطاقة انتابها شعور من الغيظ ذو معنى خاص، فأمسكت بالبطاقة وكأنها تعويذة بين يديها وفكرت:
” بإمكاني إعادتها أو بيعها، فالحصول عليها لا يعني أنني قررت الرحيل ” وكانت تدرك في قرارة نفسها تماماً أن لا أحد بإمكانه منعها من تنفيذ قرارها، ربما سيتأخر سفرها لبعض الوقت نظراً لعدم حصولها على إذن بالرحيل، ورأفة بوالدتها التي تلتقط أنفاسها الأخيرة على فراش الموت، ومن نافذة الكوخ رأت فلورانس الغيوم الرمادية وقد حجبت ضوء الشمس الوهاج، ومازالت الأرض مفروشة ببساط ضبابي، وتنبهت من شرودها على صوت والدتها المستلقية على السرير؛ وهي توبخ جبرايل الذي أتى إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل يترنح من الخمرة غير مدرك لما حوله، وحتى الآن وهو في حالة لا تسمح له بالذهاب إلى العمل. كان جبرايل مضطرباً شاحباً يشعر بمرارة ذنبه، فهو يزيد حالة أمه سوءاً بتصرفاته الهوجاء، وقف أمام المرأة منحني الرأس يزرزر قميصه، أحست فلورنس أنه ليس بإمكانه أن يتلفظ بكلمة واحدة، قالت الأم:
ولدي الحبيب! لا تدعني أرحل عن هذه الدنيا قبل أن تعدني بأنك ستصبح إنساناً صالحاً.. هل تسمعني يا بني؟
نظرت فلورنس إليه بازدراء فرأت الدموع قد ملأت عينيه، فقالت في نفسها: ” عليه أن يعدها بأن يكون إنساناً صالحاً، فلقد وعد بذلك منذ اليوم الذي عّمِد فيه. أحضرت فلورنس حقائبها إلى وسط الغرفة، تلك الغرفة الكريهة وقالت:
- والدتي.. أنا راحلة.. راحلة هذا الصباح. رددت تلك العبارة وهي غاضبة من نفسها لعدم التصريح بها في الليلة الماضية؛ لترتاح من رؤية دموعها وسماع نقاشها العقيم؛ ربما لم تكن تملك الشجاعة الكافية ولكن اليوم ليس هناك وقت تضيعه، فالساعة البيضاء الكبيرة المثبتة على جدار المحطة؛ راسخة في ذهنها، تحثها على الإسراع قبل فوات الأوان، سألتها والدتها بنبرة حادة :
- إلى أين أنت ذاهبة ؟
كانت تعلم أن والدتها على معرفة تامة بقرار رحيلها الذي سيتم تنفيذه ذات يوم، فالرحيل لم يكن وليد تلك اللحظة بل هو حلم قديم ينتظر لحظة الشروق، وها قد بزغت شمس اليوم المنتظر، نظرت الأم إلى حقائب فلورنس نظرة روع وحذر، فالخطر الوهمي أصبح واقعاً حقيقياً، وعبثاً حاولت أن تجد طريقة تثني بها ابنتها عن السفر، ولكن كل محاولة كانت تزيد فلورنس إصراراً. أحس جبرايل بنغمة أمه الحزينة، ولم يكن يعلم شيئاً عن رحيل أخته، لكنه شعر بالغبطة لحدوث أمر صرف انتباه والدته عنه، أخفض عينيه ورأى حقيبة فلورنس السفرية، فردد سؤال والدته بلهجة غاضبة:


- إلى أين تنوين الذهاب أيتها الفتاة؟ فأجابته :
- أنا ذاهبة إلى نيويورك وقد حجزت تذكرة.
حدقت والدتها فيها دون أن تنطق بكلمة واحدة، أما جبرايل فقد سألها بنبرة مخيفة :
- ومتى قررت الرحيل ؟
لم تنظر إليه ولم ترد على سؤاله، واستمرت في النظر إلى والدتها ثم قالت :
- لقد حصلت على تذكرتي وأنا راحلة في قطار الصباح.
- تمهلي يا ابنتي، هل أنت مدركة تماماً ما تنوين القيام به ؟
لمحت فلورنس في عيني والدتها نظرة شفقة ساخرة، مما شجعها على القول :
- أنا امرأة واعية وأدرك تماماً ما أفعل.
عندئذ صرخ جبرايل قائلاً:
- كيف ذلك وقد قررتِ أن ترحلي في الصباح، وتتركي والدتك على هذه الحالة.
التفتت فلورانس للمرة الأولى إلى جبرايل موجهة الحديث إليه :
- اصمت أنت، لقد اعتنت بك أيضاً، أليس كذلك ؟
أرخى جبرايل عينيه فأدركت فلورنس مدى المرارة العالقة في نفسه، وعمق المشكلة التي سيقع فيها. فهو لا يحتمل فكرة بقائه وحيداً بجانب أمه المريضة، وليس بوسعه القيام بشيء وهو على هذا الحال السيئ، وبرحيل فلورنس سيبتلع الزمن آخر ما تبقى من أولاد أمه ما عداه، إذ سيتحتم عليه عندئذ أن يعوضها عن الآلام التي تكابدها، وينقذها من شبح المعاناة وذلك بزرع الطمأنينة في نفسها خلال أيامها الأخيرة. وهذا لن يحدث إلا بابتعاده عن الخطيئة، وبرحيل فلورنس لن يكون هناك مجال للهو والعبث، وعليه أن يصبح رجلاً صالحاً قادراً على إثبات وجوده واتخاذ موقف في حياته.
ابتسمت فلورانس بسخرية وهي تراقب توتره واضطرابه، ثم نظرت إلى والدتها قائلة :
- لقد قامت بتربيتك والاعتناء بك فهي لا تحتاجني.
سألتها والدتها :
- إذن أنت ذاهبة إلى الشمال، ومتى تنوين العودة ؟
فردت فلورنس :
- لا أعتقد أنني سأعود ثانية إلى هذه البلدة.
توجه جبرايل بأنظاره إلى والدته وصرخ بحنق :
- لقد ذرفت من الدموع ما يكفي، ما بك تبكين وكأنك تجلدين بالسوط !
فنظرت إليه فلورنس للمرة الثانية وقالت :
- أليس بوسعك أن تبتلع أنفاسك وتصمت.
فتساءلت الأم :
هل تعنين من تصرفك هذا أنك تنوين التصريح بأن الشيطان قد جعل قلبك قاسياً؛ إلى درجة تودين فيها مغادرة والدتك وهي على فراش الموت، ولا يهمك رؤيتها في هذه الحياة مرة أخرى، ليس بإمكانك إقناعي بأنك شريرة إلى هذا الحد.
أحست فلورنس أن جبرايل يتفحص معالم وجهها ليتبين ردة فعلها على هذا السؤال، السؤال الذي كانت تخشى سماعه برغم إصرارها على الرحيل، أشاحت بنظرها عنهما إلى تلك النافذة المتصدعة، وسرح تفكيرها إلى ما وراء ذلك الضباب المرتفع في المكان الذي لا تستطيع عيناها رؤيته حيث تنتظرها حياة جديدة، فكرت فلورانس ” إن المرأة الراقدة على السرير عجوز مسنة قضت سنوات حياتها هباءً منثوراً، وسيضمها القبر عما قريب، أما أنا فلن أدع حياتي رهينة بين أيدي الموت “.
التفتت إلى والدتها وأعلنت :
- أنا راحلة يا أماه.. لابد من الرحيل.
اتكأت الأم على السرير ونظرت عالياً إلى الضوء وبدأت تبكي، اندفع جبرايل إلى جانب فلورانس وأمسك بيدها، نظرت إلى وجهه فرأت دموعاً في عينيه، قال لها :
- ليس بإمكانك الذهاب.. لا تستطيعين الرحيل ووالدتك على هذه الحالة، فهي تحتاج للعناية، ماذا بوسعها أن تفعل هنا وهي وحيدة معي ؟
دفعته عنها واقتربت من سرير والدتها قائلة :
- أمي..كفي عن هذا فلست الإنسانة المباركة التي تستحق دموعك، أليس ما سيحدث لي في الشمال ممكن أن يحدث هنا، الله موجود في كل مكان فلا مبرر إذن للقلق.
أدركت فلورنس أن الكلمات التي تنطق بها لا تعير لها الأم انتباهاً، بل تثير الاستخفاف في نفسها، يا لهذه الأم المسكينة! لقد منحت ابنتها حافزاً للحياة فهل أخطأت في ذلك؟ من المؤكد أنها لا تبكي على مستقبل ابنتها، وإنما على ماضٍ ولى ورحل، وعلى آلام لم يشاركها بها أحد. أحست فلورنس بحزن أمها فألم بها خوف مريع سرعان ما تحول إلى غضب؛ ترجمته بلهجة حاقدة إلى كلمات وجهتها لأخيها :
- سيعتني بك جبرايل، لن يتخلى عنك.. أليس كذلك ؟
وقف جبرايل قريباً من سرير أمه مرتبكاً حزيناً وقال :
- ولكن.. أنا
فقاطعته فلورنس :
- عليّ الذهاب الآن.
سارت إلى وسط الغرفة وتناولت حقيبتها، همس جبرايل في أذنها :
- ألا ينتابك أي إحساس بالذنب حيال أمك ؟
صرخت الأم، فاقترب الولدان من سريرها وحدقا في وجهها وهي تقول :
- يا إلهي شيئاً من رحمتك لابنتي الخاطئة، ساعدها وانتشلها من بحيرة الشر التي تكاد تغرق نفسها بها.. يا الهي أرجوك..
توقف صوتها وانقطع وبدأت الدموع تسيل على خديها ثم تابعت:
- لقد فعلت أقصى ما بوسعي لتربية أولادي، فارحمهم وارحم أحفادي.
قال جبرايل متأثراً بدموع أمه :
- أرجوك لا تذهبي يا فلورانس..لا يمكن أن تكوني جادة في رحيلك وتتركي والدتك على هذه الحال التعيسة.
امتلأت عيناها بالدموع، وعبثاً حاولت أن تجد بضع كلمات تتفوه بها عدا كلمة واحدة قالتها وهي تبكي:
- دعني..
حملت حقيبتها ثم فتحت باب الكوخ الذي تسلل منه هواء الصباح المنعش وقالت :
- وداعاً.. بلغ سلامي إلى والدتي.
خرجت تسير عبر الممر ووصلت إلى الساحة المغطاة بالثلج، كان جبرايل يراقبها مذهولاً وصوت بكاء والدته يتردد إلى مسامعه. عندما وصلت فلورانس إلى البوابة وهمت بفتحها، انطلق جبرايل مسرعاً إليها محاولا إيقافها :
- إلى أين أنت راحلة أيتها الفتاة.. ما الذي تنوين القيام به.. هل تعتقدين أن حظك الجيد سيجعلك تلتقين بالرجال في الشمال الذين سيقدمون لك الجواهر واللآلئ.
فتحت البوابة بعنف غير مكترثة به وتابعت طريقها، ووقف مشدوها ينظر إليها حتى حجبها الضباب
/كارثة المنجم  في نيويورك /هاروكي موراكامي/ ترجمة خالد الجبيلي

/كارثة المنجم في نيويورك /هاروكي موراكامي/ ترجمة خالد الجبيلي

هاروكي موراكامي
ترجمة : خالد الجبيلي

قصة "كارثة المنجم في نيويورك"

دأب أحد أصدقائي على الذهاب إلى حديقة الحيوانات كلما هبّ إعصار. وهو يفعل ذلك منذ قرابة عشر سنوات. فما أن يغلق معظم الناس خصاص نوافذهم، ويسرعون لتخزين المياه المعدنية، أو تفحّص أجهزة الراديو والمصابيح الكاشفة للتأكد من أنها تعمل، حتى يرتدي صديقي معطفاً من مخلّفات الجيش منذ أيام حرب فيتنام، ويدّس علبتيّ بيرة في جيوبه، وينطلق إلى حديقة الحيوانات التي لا تبعد عن بيته سوى خمسة عشر دقيقة. 
وإذا لم يحالفه الحظ، وكانت حديقة الحيوانات قد أغلقت أبوابها "بسبب رداءة الطقس"، فإن صديقي يجلس على درجات تمثال السنجاب الحجري المنتصب إلى جانب مدخل الحديقة، ويحتسي البيرة الفاترة، ثم يقفل عائداً إلى البيت. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
أما إذا وصل في الوقت المناسب، فإنه يسدد رسم الدخول، ويشعل سيجارة مبللة بالماء، ويبدأ يتمعن في تلك الحيوانات، الواحد تلو الآخر، التي يلوذ معظمها إلى جحورها وعرائنها. وكانت بعض هذه الحيوانات تقف هناك وهي تحدّق في المطر الهاطل بغزارة، فيما يتقافز بعضها الآخر هنا وهناك في الريح العاصفة. وينتاب بعضها الآخر الخوف من هذا الهبوط المفاجئ في درجة الحرارة والضغط الجوي، فيما يتحول بعضها الآخر إلى حيوانات شريرة. 
ويحرص صديقي على أن يحتسي أول علبة بيرة أمام قفص النمر البنغالي. (إذ أن ردة فعل النمور البنغالية هي الأعنف والأشرس دائماً عندما تهب العاصفة)، أما العلبة الثانية فيحتسيها أمام قفص الغوريلا. ففي معظم الأحيان، يكون الغوريلا أقل الحيوانات تأثراً بالإعصار، إذ يقبع هناك وينظر إلى صديقي بعينين هادئتين وهو جالس مثل حورية بحر على الأرض الخرسانية يرشف البيرة، ولا بد أنه كان يشعر بالحزن والأسى عليه. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
قال لي صديقي: "يبدو الأمر وكأنك موجود في مصعد تعطّل أثناء صعوده وتجد نفسك فجأة وأنت عالق في داخله مع أشخاص غرباء". 
إذا وضعنا الأعاصير جانباً، فإن صديقي لا يختلف عن أي شخص آخر في شيء. وهو يعمل في شركة للتصدير تدير استثمارات أجنبية. وهي ليست من أفضل الشركات، بل شركة متوسطة. ويعيش وحده في شقّة صغيرة نظيفة ويبدّل صديقة كلّ ستّة أشهر. وهو يصرّ على أن يبدّل صديقاته كلّ ستّة أشهر (وهو يفعل ذلك دائماً كلّ ستّة أشهر بالتمام والكمال) ولم أفهم مغزى ذلك. إذ تبدو لي الفتيات جميعهن يشبهن بعضهن، وكأن إحداهن مستنسخة عن الأخرى، إلى درجة أنه يتعذر عليّ أن أميّز الواحدة عن الأخرى. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
ويمتلك صديقي سيارة مستعملة جميلة، ومجموعة مؤلفات بلزاك، وبدلة سوداء، وربطة عنق سوداء، وحذاء أسود تلائم تماماً حضور جنازات. فكلما مات شخص، كنت أتصل به وأسأله إن كان بوسعي أن أستعيرها منه، رغم أن الحذاء كان أكبر من قدمي بمقياس واحد. 
"آسف لإزعاجك مرة أخرى"، قلت له في آخر مرّة اتصلت فيها معه. "توجد جنازة أخرى". 
"تفضل. لا بد أنك مستعجل عليها"، أجاب ثم قال: "لم لا تأتي في الحال؟" 
عندما وصلت إلى بيته، كانت البدلة وربطة العنق موضوعة على الطاولة، مكوية بعناية، والحذاء ملّمعاً، وكانت الثلاجة مليئة بالبيرة المستوردة كالمعتاد. 
"قبل أيام رأيت قطة في حديقة الحيوانات"، قال، وهو يفتح علبة بيرة. 
"قطة؟" 
"نعم، منذ أسبوعين. ذهبت إلى هوكايدو في رحلة عمل وذهبت لزيارة حديقة حيوانات بالقرب من الفندق الذي أقيم فيه. كانت توجد قطة تغط في النوم في أحد الأقفاص علقت عليه لافتة كتب عليها "قطة". 
"أي نوع من القطط هي؟" 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
"مجرد قطة عادية. ذات خطوط بنية اللون، ولها ذيل قصير. وسمينة إلى حد لا يصدق. كانت مستلقية على جانبها، وظلت هكذا". 
"لعل القطط غير معروفة كثيراً في هوكايدو." 
"لا بد أنك تمزح"، قال مندهشاً، "لا بد أنه توجد قطط في هوكايدو. لا يمكن أن تكون قطة غير عادية". 
قلت: "حسناً، انظر إلى الأمر بطريقة أخرى: لماذا يجب ألا يكون هناك قطط في حديقة الحيوانات؟" وأضفت: " إن القطط حيوانات أيضاً، أليس كذلك؟" 
قال:"إن القطط والكلاب حيوانات عادية. ولن تجد أحداً يدفع نقوداً ليراها"، وأضاف: "إذا نظرت حولك فإنك ستراها في كل مكان. والشيء ذاته ينطبق على الناس". 
عندما أنهينا احتساء صندوق البيرة المؤلف من ستة علب، وضعت البدلة وربطة العنق والحذاء في كيس كبير من الورق. 
"إني آسف لأني أزعجك باستمرار"، قلت، "فأنا أعرف أنه يجب أن أشتري بدلة لي، لكن ليس لديّ وقت لأفعل ذلك. أشعر بأني إذا اشتريت بدلة لحضور الجنازات فكأني أعرب عن موافقتي إذا ما مات أحدهم". 
قال: "لا توجد مشكلة. ففي جميع الأحوال فأنا لا أستعملها. من الأفضل أن يكون هناك شخص يستعملها على أن تظل معلقة في الخزانة طوال الوقت، أليس كذلك؟" 
صحيح فهو لم يكد يرتدي البدلة منذ أن اشتراها منذ ثلاث سنوات. 
"غريب، فمنذ أن اشتريت البدلة لم يمت ولا شخص واحد أعرفه"، قال موضحاً. 
"هكذا هي الحياة". 
فردد: "نعم، هكذا هي الحياة". 
* *قصة "كارثة المنجم في نيويورك" 
ومن الناحية الأخرى، كانت هذه السنة سنة الجنازات بالنسبة لي. فقد راح الأصدقاء والأصدقاء السابقون يموتون الواحد تلو الآخر، مثل سنابل القمح التي تذوي وتذبل أثناء الجفاف. فقد كنت في الثامنة والعشرين من العمر. وكان أصدقائي جميعهم في حوالي السابعة والعشرين والثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، وهو ليس العمر الملائم الذي يموت فيه المرء. 
قد يموت شاعر وهو في الحادية والعشرين من عمره، أو شاب ثوري أو نجم روك في الرابعة والعشرين. لكنك تظن بعد ذلك أن كلّ شيء سيغدو على ما يرام، وأنك تجاوزت "منعطف الموت" وخرجت من النفق، منطلقاً مباشرة باتجاه المكان الذي تقصده على الطريق السريع ذي الحارات الست سواء – سواء شئت أم لم تشأ. إذ كنت تدأب على الذهاب إلى الحلاق وتقصّ شعرك، وتحلق ذقنك صباح كلّ يوم، أما الآن فلم تعد شاعراً، أو ثورياً أو نجماً من نجوم موسيقى الروك. ولا يعود يغمي عليك من شدة السكر وأنت في كشك الهاتف، أو تقرع الأبواب في الساعة الرابعة صباحاً، أو حتى تشتري بوليصة تأمين على الحياة من الشركة التي يعمل فيها صديقك، وتشرب في حانات الفنادق، وتتمسك بفواتير طبيب الأسنان ليخفضوا لك الضريبة، الذي يعتبر أمراً طبيعياً في سن الثامنة والعشرين. 


لكن هذا ما حدث تماماً عندما بدأت المذبحة غير المتوقّعة. كان ذلك أشبه بهجوم مباغت في يوم ربيعي كسول – وكأن شخصاً يقف فوق هضبة وهمية، يحمل رشاشاً وهمياً، ويطلق علينا النار. ففي لحظة نبدّل ثيابنا، وفي لحظة أخرى لا تعود هذه الثياب تلائم مقاسنا: إذ تصبح الأكمام مقلوبة إلى الخارج، وإحدى ساقينا محشورة في فتحة بنطال، والساق الأخرى في فتحة بنطال آخر. فوضى تامة. 
لكن هذا هو الموت. فالأرنب أرنب سواء كان يقفز من قبعة ساحر أو في حقل قمح. والفرن الحار هو فرن حار، والدخان الأسود المتصاعد من مدخنة هو ما هو - دخّان أسود يتصاعد من مدخنة. 
وكان أول شخص يطأ بقدميه طرفي الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم (أو الوهم والحقيقة) صديقاً من الجامعة يدرّس حالياً اللغة الإنكليزية في المدارس الإعدادية. وكان قد مضى على زواجه ثلاث سنوات، وقد عادت زوجته إلى بيت أبويها في شيكوكو لتلد طفلهما. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
وفي مساء يوم أحد دافئ على نحو غير اعتيادي من شهر كانون الثاني، توّجه إلى أحد المخازن الكبيرة واشترى علبتين من معجون الحلاقة وسكيناً كبيرة تكفي لقطع أذن فيل. ثم عاد إلى البيت وفتح صنبور حوض الحمّام. وأخرج من الثلاجة بضع قطع من الثلج، وجرع زجاجة ويسكي كاملة، واستلقى في حوض الحمّام، وقطع شرايين رسغيه. وبعد يومين اكتشفت أمّه الجثة. فجاءت الشرطة والتقطت صوراً كثيرة. وكان الدم قد صبغ الماء في حوض الحمّام وأصبح بلون عصير البندورة (الطماطم). واعتبرت الشرطة أن الحادثة انتحار. إذ كانت جميع الأبواب موصدة، وبالطبع كان المتوفى هو الذي اشترى السكين. لكن لماذا اشترى علبتين من معجون الحلاقة اللتين لم يكن ينوي استعمالها؟ لم يعرف أحد سرّ ذلك. 
ربما لم يخطر بباله عندما كان في المخزن الكبير أنه سيكون بعد ساعتين في عداد الأموات. أو ربما خشي أن يعرف أمين الصندوق أنه سيقتل نفسه. 
ولم يكتب وصية أو رسالة وداع. ولم يكن يوجد على طاولة المطبخ سوى كأس، وزجاجة الويسكي الفارغة ودلو صغير فيه ثلج، وعلبتي معجون الحلاقة. وفيما كان ينتظر حتى يمتلئ حوض الحمّام بالماء، وهو يجرع كأساً إثر كأس من ويسكي "هيغ" بدون ماء، لا بد أنه حدّق في هاتين العلبتين وفكّر بشيء من قبيل: "لن أحلق ذقني مرة أخرى على الإطلاق". 
إن موت رجل في الثامنة والعشرين شيء حزين مثل مطر الشتاء. 
خلال الإثني عشر شهراً التالية، مات أربعة أشخاص آخرين. 
فقد مات أحدهم في شهر آذار في حادثة في حقل نفط في المملكة العربية السعودية أو في الكويت، ومات اثنان في شهر حزيران إثر نوبة قلبية وحادث مرور. ومن تموز إلى تشرين الثاني ساد نوع من الهدوء، لكن في كانون الأول ماتت صديقة أخرى، في حادث تحطّم سيارة أيضاً. 
وبخلاف صديقي الأول الذي انتحر، لم يكن لدى هؤلاء الأصدقاء وقت كاف ليدركوا أنهم سيموتون. فقد كان الأمر بالنسبة لهم مثل صعود درج كانوا قد صعدوه مليون مرّة من قبل وبغتة وجدوا أن درجة قد اقتلعت من مكانها. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
"هل سترتبين لي السرير؟" سأل الصديق الذي مات إثر نوبة قلبية زوجته، الذي كان يعمل مصمم أثاث. كانت الساعة الحادية عشر قبل الظهر. كان قد استيقظ في الساعة التاسعة، وعمل قليلاً في غرفته، ثم قال إنه يشعر بالنعاس. توّجه إلى المطبخ، وأعدّ قليلاً من القهوة واحتساها. لكن القهوة لم تسعفه. قال في نفسه: "أظن أني سآخذ قيلولة. إني أسمع صوت طنين خلف رأسي". تلك كانت عبارته الأخيرة. تكوّر في السرير، وغط في النوم، ولم يستيقظ ثانية. 
أما الصديقة التي ماتت في كانون الأول فكانت أصغرهم جميعهم، والمرأة الوحيدة بينهم. كانت في الرابعة والعشرين من العمر، وكانت تشبه امرأة ثورية أو نجمة من نجمات الروك. فذات ليلة ماطرة باردة قبل عيد الميلاد، وجدت مستلقية في ذلك المكان المأساوي بين شاحنة وعمود هاتف خرساني. 
بعد أيام قليلة من آخر جنازة، توجهت إلى شقّة صديقي لأعيد له البدلة التي أخذتها من محل التنظيف الجاف، ولأقدم له زجاجة الويسكي لأعرب له عن شكري وامتناني. 
"لا أعرف كيف أشكرك. إني أقدّر لك ذلك حقاً"، قلت. 
كالعادة، كانت ثلاجته مليئة بعلب البيرة الباردة، وكانت أريكته المريحة تعكس شعاعاً فاهياً من نور الشمس. وعلى المنضدة الصغيرة كانت هناك منفضة سجائر نظيفة وأصص نباتات عيد الميلاد. 
أخذ البدلة مني، في غطائها البلاستيكي، وكانت حركاته تشبه حركات دبّ خرج لتوه من مرحلة السبات، ووضعها جانباً بهدوء. 
قلت: "أرجو ألا تكون رائحة البدلة تشبه رائحة جنازة". 
فقال: "إن الثياب ليست هامة. بل المشكلة الحقيقية تكمن في من يرتديها". 
"ممممم" همهمت. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
"جنازة بعد أخرى بالنسبة لك خلال هذه السنة"، قال، وقد مدّ يده وهو جالس على الأريكة ليصبّ البيرة في الكأس، وسأل: "كم بلغ عدد الجنازات التي حضرتها حتى الآن؟" 
"خمس جنازات"، قلت فارداً أصابع يدي اليسرى، وأضفت: "لكني أظن أنها انتهت لهذا العام". 
"هل أنت متأكّد من ذلك؟" 
"لقد مات عدد كاف من الأصدقاء". 
قال: "إنها مثل لعنة الأهرامات أو شيء من هذا القبيل"، وأضاف: "أذكر أني قرأت ذلك في مكان ما. تستمرّ اللعنة حتى يموت عدد كاف من الناس، وإلاّ يظهر نجم أحمر في السماء ويغطي ظلّ القمر الشمس". 
بعد أن أجهزنا على ست علب من البيرة، بدأنا نحتسي الويسكي. تسلل ضوء الشمس الشتائي برقة إلى الغرفة. 
قال: "تبدو مكتئباً بعض الشيء هذه الأيام". 
سألته: "أتظن ذلك؟" 
فأجاب: "لا بد أنك تفكّر كثيراً ببعض الأشياء في منتصف الليل. يجب ألا تفكّر بهذه الأمور في الليل". 
"وكيف يمكنك أن تفعل ذلك؟" 
"عندما يعتريني شعور بالاكتئاب، أشرع في تنظيف البيت، حتى لو كان ذلك في الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً. إذ أغسل الصحون، وأنظّف الموقد، وأكنس الأرض، وأبيّض مناشف تجفيف الصحون، وأنظم دروج منضدتي، وأكوي كلّ قميص تقع عيني عليه"، قال وهو يحرّك كأسه بإصبعه. "إني أفعل ذلك حتى أصبح منهكاً، ثم أتناول مشروباً وأنام. وفي الصباح أستيقظ وما أن أبدأ في ارتداء جوربي حتى لا أعود أتذكر ما كنت أفكّر به". 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
تلفّت حولي مرة أخرى. وكما هو الحال دائماً، كانت الغرفة نظيفة ومرتبة. "إن الناس يفكّرون بأشياء كثيرة في الساعة الثالثة صباحاً. كلنا نفعل ذلك. لذلك يجب على كلّ واحد منا أن يجد طريقة ليطرد هذه الأشياء من تفكيره". 
"أظن أنك على حق"، قلت. 
"حتى الحيوانات تفكّر بأشياء في الساعة الثالثة صباحاً"، قال وكأنه يتذكر شيئاً، "هل حدث أن ذهبت إلى حديقة الحيوانات في الساعة الثالثة صباحاً؟" 
"لا" أجبت بغموض، "بالطبع لا". 
"لقد فعلت ذلك مرّة واحدة فقط. لي صديق يعمل في حديقة الحيوانات، وقد طلبت منه أن يسمح لي بالدخول عندما يعمل في نوبة الليل. ليس من المطلوب أن تفعل ذلك"، هزّ كأسه وأضاف: "كانت تجربة غريبة. لا أستطيع أن أفسرها لك، لكني أحسست وكأن الأرض قد انشقت بسكون تام، وبدأ شيء يخرج منها زاحفاً. بدا أن هناك شيئاً غير مرئي يموج في الظلام. كان وكأن الليل البارد قد تخثّر. لم أتمكن من رؤيته، لكني شعرت به، وأحست به الحيوانات أيضاً. وهذا جعلني أفكّر بأن الأرض التي نمشي عليها تصل إلى باطن الأرض، وأدركت فجأة أن باطن الأرض قد امتص قدراً كبيراً من الزمن". 
لم أقل شيئاً. 
"على أي حال، لا أريد أن أذهب مرة أخرى إلى حديقة الحيوانات في منتصف الليل". 
"هل تفضّل حدوث إعصار؟" 
فقال: "نعم، اعطني إعصاراً كلّ يوم". 
*قصة "كارثة المنجم في نيويورك" * 

رن الهاتف فتوّجه إلى غرفة نومه ليرّد على المكالمة. كانت صديقته المستنسخة، ومكالمة هاتفية مستنسخة لانهائية أخرى. أردت أن أقول له إنه كان يوماً حافلاً، لكنه ظل يتكلم على الهاتف إلى الأبد. لم أعد أنتظره وفتحت التلفزيون. كان جهازاً ملوناً حجمه سبعة وعشرون بوصة وله جهاز تحكّم عن بعد، لا تكاد تلمسه حتى تتغير القناة. كان للتلفزيون ستة مكبرات صوت وصوت ضخم. لم أر في حياتي مثل هذا التلفزيون الرائع. 
أجريت دورتين كاملتين على القنوات قبل أن أتوقف عند برنامج إخباري. اشتباك على الحدود، حريق، أسعار الصرف في ارتفاع وهبوط، قيود جديدة على استيراد السيارات، مباريات السباحة الشتوية في الهواء الطلق، انتحار أسرة. بدا لي أن جميع هذه الأخبار يرتبط أحدها بالآخر بطريقة ما، تماماً مثل الأشخاص في صورة تخّرج في الثانوية. 
"هل توجد أخبار مثيرة للاهتمام؟" سأل صديقي عندما عاد إلى الغرفة. 
"ليس في الواقع"، قلت. 
"هل تشاهد التلفزيون كثيراً؟" 
هززت رأسي وقلت: "لا يوجد عندي تلفزيون". 
"على الأقل هناك شيء جيد في التلفزيون"، قال بعد فترة صمت، ثم أضاف: "تستطيع أن تغلقه عندما تشاء. ولا أحد يتذمر من ذلك". 
ضغط زرّ الإطفاء في جهاز التحكم. وعلى الفور أصبحت الشاشة سوداء. لكن الغرفة ظلت مضيئة. أما في خارج النافذة، فقد بدأت الأضواء تنير في البنايات الأخرى. 
لبثنا جالسين هكذا قرابة خمس دقائق، نحتسي الويسكي، ولا يوجد شيء نتحدث عنه. رّن الهاتف مرة أخرى، لكنه تظاهر بأنه لم يسمعه. وما أن توقّف الهاتف عن الرنين، حتى ضغط على زرّ جهاز التحكم فعادت الصورة في الحال، وظهر على الشاشة مذيع يقف أمام رسم بياني ويحمل بيده مؤشراً يشرح بواسطته التغيرات التي طرأت على أسعار النفط. 
"أترى؟ حتى أنه لم يلاحظ أننا أطفأناه لمدة خمس دقائق". 
"صحيح"، قلت. 
" لماذا في رأيك؟" 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
كان التفكير بهذا الأمر مشكلة كبيرة بالنسبة لي، لذلك هززت رأسي وقلت: "عندما تطفئه، يتوقف أحد الجانبين عن الوجود. إنه هو أو نحن. ما أن تضغط على الزر حتى يصبح هناك تعتيم على الاتصالات. إنه أمر سهل"، وأضفت: "هناك طريقة واحدة في التفكير في الأمر". 
"هناك ملايين الطرق في التفكير. ففي الهند يزرعون أشجار جوز الهند. وفي الأرجنتين تمطر السماء سجناء سياسيين من الطائرات المروحية". أطفأ التلفزيون مرة أخرى، وقال: "لا أريد أن أقول شيئاً عن الشعوب الأخرى. لكن فكّر في أنه توجد طرق للموت لا تنتهي بالجنازات. أنواع من الموت لا تستطيع أن تشمها". 
أومأت بصمت. خيّل إليّ أني فهمت ما يرمي إليه. وفي الوقت نفسه، شعرت بأني لم أعرف ما يقصده تماماً. كنت متعباً ومشوّشاً بعض الشيء. جلست هناك أعبث بإحدى أوراق النباتات الخضراء. 
قال بحماس: "يوجد لديّ قليل من الشمبانيا التي كنت قد أحضرتها عندما كنت في رحلة عمل إلى فرنسا منذ فترة. لا أعرف الكثير عن الشمبانيا، لكن من المفترض أنها ممتازة. هل تريد قليلاً منها؟ قد تكون بحاجة إلى قليل من الشمبانيا بعد حضورك سلسلة الجنازات تلك". 
أخرج زجاجة الشمبانيا المبرّدة وكأسين نظيفين ووضعهما بهدوء على الطاولة، ثم ابتسم بخبث وقال: " كما تعرف فإن الشمبانيا عديمة الفائدة تماماً"، وأضاف قائلاً: الشيء الجيد الوحيد فيها هو عندما تطلق الفلينة صوت فرقعة". 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
"لا أستطيع أن أجادلك في هذا الأمر"، قلت. 
فتحنا الزجاجة وفرقعت الفلينة، وتحدثنا قليلاً عن حديقة الحيوانات في باريس والحيوانات الموجودة هناك. كانت الشمبانيا رائعة. 
* * 
حضرت حفلة رأس السنة التي يقيمونها سنوياً في عشية السنة الجديدة في إحدى الحانات في منطقة روبونغي التي تُستأجر خصيصاً لهذه المناسبة. وكان هناك عزف ثلاثي على البيانو، والكثير من الطعام اللذيذ والشراب الجيد، وصادفت شخصاً أعرفه، ورحنا نتجاذب أطراف الحديث قليلاً. كان عملي يقتضي أن أحضر كلّ سنة. لم أكن أحبّ الحفلات، لكنني حضرت هذه الحفلة لأنه لم يكن لديّ شيء أفعله عشيّة رأس السنة الجديدة، وكان بإمكاني أن أقف هناك وحيداً في الركن، مسترخياً، أشرب، وأستمتع بالموسيقى. لا أشخاص مقيتين، ولا حاجة لأن أتعرف على غرباء وأنصت إليهم وهم يتشدقون لنصف ساعة عن كيف أن طعام النباتيين يشفي من مرض السرطان. 
لكن في مساء ذلك اليوم عرّفني أحدهم على امرأة. وبعد حديث عادي، حاولت أن أنكفئ وأعود إلى زاويتي ثانية. لكن المرأة تبعتني إلى مقعدي، وكأس الويسكي في يدها. 
"لقد طلبت أن أتعرف عليك"، قالت برقة. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
لم تكن من النوع الذي يدير رؤوس الرجال، مع أنها كانت جذّابة. 
كانت ترتدي فستاناً أخضر من الحرير غالي الثمن. خمنت أنها في الثانية والثلاثين من عمرها تقريباً. كان بوسعها أن تجعل نفسها تبدو أصغر سناً بسهولة، لكنها يبدو أنها كانت تظن أن الأمر لم يكن جديراً بالمحاولة. وكان تزين أصابعها ثلاثة خواتم، ورفّت على شفتيها ابتسامة واهية. 
قالت: "إنك تشبه شخصاً أعرفه. ملامح وجهك، ظهرك، الطريقة التي تتكلّم بها، مزاجك العام – إنه لشَبَه يثير الدهشة. إني لم أرفع عيني عنك منذ أن وصلت". 
"إذا كان يشبهني إلى هذه الدرجة، فإني أريد أن ألتقي به"، قلت. ولم يخطر ببالي شيء آخر أقوله لها. 
"هل حقاً تريد ذلك؟" 
"أريد أن أرى كيف يشعر المرء عندما يلتقي بشخص يشبهه تماماً". 
ازدادت ابتسامتها إشراقاً لوهلة، ثم عادت إلى ما كانت عليه وقالت: "لكن هذا مستحيل. لقد مات منذ خمس سنوات. عندما كان في نفس عمرك الآن". 
"صحيح؟" قلت. 
"لقد قتلته". 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
كان الثلاثي على وشك أن ينهوا معزوفتهم الثانية، وانطلق تصفيق فاتر. 
"هل تحبّ الموسيقى؟" سألتني. 
"أحبها إن كانت موسيقى لطيفة في عالم لطيف"، قلت. 
"في عالم لطيف لا توجد موسيقى لطيفة"، قالت، وكأنها تكشف سراً عميقاً، وأضافت: "في عالم لطيف، لا يتذبذب الهواء". 
"نعم"، قلت، ولم أعرف كيف أردّ عليها. 
"هل شاهدت الفيلم الذي يعزف فيه وارن بيتي البيانو في ناد ليلي؟" 
"لا، لم أشاهده". 
"تكون فيه إليزابيث تايلور واحدة من زبائن النادي، وهي حقاً فقيرة وبائسة". 
"هممم". 
"ويسأل وارن بيتي إليزابيث تايلور إن كانت لديها أي طلبات". 
"وهل طلبت منه شيئاً؟" 
"نسيت. إنه حقاً فيلم قديم". 
كانت خواتمها تتلألأ وهي تشرب الويسكي. "إني أكره الطلبات. تجعلني أبدو حزينة. إنها مثل عندما آخذ كتاباً من المكتبة. ما أن أبدأ في قراءته حتى يصبح كل همي متى أنهيه". 
وضعت سيجارة بين شفتيها. أشعلت عود ثقاب وأشعلت لها السيجارة. قالت: "لنر، كنّا نتحدّث عن الشخص الذي يشبهك". 
"كيف قتلتيه؟" 
"ألقيت به في خلّية نحل". 
"إنك تمزحين، صحيح؟" 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
"نعم"، قالت. 
بدلاً من أن أتنفس الصعداء، أخذت جرعة من الويسكي. كان الثلج قد ذاب ولم يعد طعمه يشبه طعم الويسكي. 
"بالطبع، من الناحية القانونية أنا لست قاتلة"، قالت. "ولا من الناحية الأخلاقية". 
إنها ليست قاتلة، لا من الناحية القانونية ولا من الناحية الأخلاقية. استعرضت النقاط التي عرضتها مع أني لم أكن أريد ذلك. "لكنك قتلت شخصاً". 
"صحيح"، أومأت بسعادة، "شخص يشبهك تماماً". في وسط الغرفة أطلق رجل ضحكة عالية. وراح الذين يتحلقون حوله يضحكون أيضاً. كؤوس تُقرع. بدت بعيدة جداً لكنها شديدة الوضوح. لا أعرف السبب، لكن قلبي كان يخفق بقوة، وكأنه كان يتوسّع أو يصعد ويهبط. أحسست وكأني أمشي على أرض تطوف فوق الماء. 
"استغرق قتله أقل من خمس ثوان"، قالت. 
صمتنا لبرهة. كانت تأخذ وقتها، تتذوق طعم الصمت. 
"هل فكرت أبداً بالحرية؟" سألتني. 
"أحياناً"، قلت. "لماذا تسألين؟" 
"هل تستطيع أن ترسم أقحوانة؟" 
"أظن ذلك. هل هذا اختبار شخصية؟" 
"تقريباً"، ضحكت. 
"حسنا، هل نجحت؟" 
"نعم"، أجابت. "ستكون على ما يرام. لا تقلق من شيء. حدسي يقول لي إنك ستعيش حياة مديدة بعض الشيء". 
"شكراً لك"، قلت. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
بدأت الفرقة تعزف Auld Lang Syne 
"الحادية عشرة وخمسة وخمسون دقيقة"، قالت، ونظرت إلى ساعة الذهب المعلقة في سلسلة. "أنا أحبّ حقاً Auld Lang Syne . هل تحبّها أيضاً؟" 
"أنا أفضّل Home on the Range مع كلّ تلك الأيائل والظباء". 
ابتسمت وقالت: "لا بد أنك تحبّ الحيوانات". 
"نعم"، قلت. وفكّرت بصديقي الذي يحبّ حدائق الحيوانات، وببدلته التي كنت أستعيرها لحضور مراسم الجنازات. 
"استمتعت بالحديث إليك. إلى اللقاء". 
"إلى اللقاء"، قلت. 
* * 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"
لقد أطفأوا مصابيحهم لتوفير الهواء، وخيم عليهم الظلام. لم يتكلم أحد. كلّ ما كان بوسعهم أن يسمعوه في الظلام هو صوت الماء يقطر من السقف كلّ خمس ثوان. 
حسناً، حاولوا ألا تتنفسوا كثيراً. لم يتبق لدينا كثير من الهواء"، قال عامل منجم عجوز. خفض صوته ليصبح همساً، لكن رغم ذلك كانت الأعمدة الخشبية في سقف النفق تصرّ قليلاً. في الظلام، تكوّم عمّال المناجم معاً، يجاهدون لسماع صوت واحد. صوت الفؤوس. صوت الحياة. 
انتظروا ساعات طوال. بدأ الواقع يتبدد في الظلام. بدأ كلّ شيء يبدو وكأنه يحدث منذ زمن بعيد، في عالم بعيد جداً. أم أنه كان يحدث في المستقبل، في عالم بعيد مختلف؟ 
في الخارج، كان الناس يحفرون حفرة، يحاولون الوصول إليهم. كان أشبه بمشهد من فيلم سينمائي. 
قصة "كارثة المنجم في نيويورك"

قطة في المطر /ارنيت همنجواي/ ترجمة زعبم الطائي














قطة في المطر
إرنست همنجواي
ترجمة : زعيم الطائي



في كل مرة اقدم فيها على ترجمة عمل أدبي يبرز في وجهي سؤال لايتناسب مع اجابته : ماموقع المترجم من كل هذا الجهد؟ ، ثم يستمر شعور الخشية بعد الخيبة من ان يكون احد ما قد سبقك وترجم نفس العمل دون ان يمتلك دقتك واخلاصك للغتك وعدم تهاونك في اتمام وانجاز ماتنشد ، سيما وان البعض يتصور ان عملا قد ترجم من قبل صار ت ممنوعة ترجمته مرة اخرى كصك انتداب ابدي ..وانا اعط بلا مكابرة لكل ذي حق حقه ، فالصعوبة التي يصادفها المترجم تفوق الوصف ،اولها البحث عن عمل جميل وملائم للقراءة وممتلكا شرط العمل الأدبي النافع ، اضافة الى حجمه كعمل يمكن نشره بسهولة لقصره بمايناسب النشر في مجلة او صحيفة او موقع ادبي ،، فالقصة في اللغات الاخرى تمتاز بالطول والاسهاب حتى تقترب بعض الأحيان من حجم الرواية القصيرة ،بحيث سيتعذر نشرها في اللغة العربية الا في كتاب مستقل ، ومعروفة ظروف نشر الكتا ب في لغتنا . ناهيك عما يتطلبه دور االمترجم من قراءة اعمال كثيرة لاتستحق الترجمة بتاتا ، والتوقف على الأختيارات المناسبة والكاتب المناسب ، لذلك بات ضروريا البدء بترجمة الأعمال التي احببتها واعاقتني ترجماتها السابقة عن ادراك سر كمالها وديمومتها ، ومن هذه الأعمال هذه القصة التي ترجمت الى العربية بشكل سيئ رغم قيام العديدين بترجمتها ، فلم يهتم لها احد ، وهي من الأعمال الكبيرة رغم قصرها و التي تعد كأ مثولة في فن الكتابة القصصية واسلوب همنجواي الفريد الذي ظل مسيطرا على اجواء الكتابة والأساليب القصصية طوال فترة القرن الماضي ،لعل القارئ يكتشف من جديد سر قوة وتأ ثير هذه القصة التي لايخلو كتاب تدريسي في النقد االأدبي من الأشارة اليها، رغم انها اتت في مشهد واحد وزاوية نظر لعين ٍ لاتنسى تشبه عينا للكاميرا المحايدة .انها قصة العزلة والرغبات الدفينة والحوارات المتوترة وفقدان التواصل المفروض بين اقدار البشر . 


المترجم

كان هناك امريكيان فقط قد توقفا عند ذلك الفندق ،لم يتعرفا بأي احد من النزلاء بعد ،فاتخذا طريقهما بين السلالم العليا، عابرين الممر المؤدي نحو غرفتهما في الطابق الثاني ، بمواجهة البحر ، والتي تطل ايضا على متنزه عمومي يتوسطه نصب تذكاري للحرب، حيث اصطفت عدة نخلات ،مع بضعة مصاطب طليت باللون الأخضر .
دائما في الأجواء الصافية يرتاد أحد الرسامين المكان مصطحبا حاملة لوحاته ، فقد كان الفنانون يعشقون الطريقة التي نبتت بها اشجار النخيل العالية ، وألوان الفنادق البراقة المقابلة للحدائق والبحر.

.كان نفر من الايطاليين قد جاؤوا من مناطق نائية بغية مشاهدة النصب البرونزي الذي اخذ شكله بالالتماع بعد تساقط قطرات المطر .والتي كانت تنثال من خلال شجيرات النخل ،مكونة بركاَ مائية ضحلة تجمعت بين الممرات المغطاة بالحصى ،وتحت وابل الامطاراخذ البحر يتكسر في خط طويل متعرج وهو ينزلق عائدا نحو الشاطئ، ثم يندفع عاليا في خط طولي متكسر آخر متراجعا بعد اشتداد غزارتها .
غادرت العربات ساحة النصب ، وفي المقهى عبر الساحة ، توقف احد الندل عند المدخل مصوبا نظراته الى الخارج ، حيث المكان الخالي.
وقفت زوجة الامريكي عند شباكها ، متطلعة ،فخارجا اسفل الشباك ، عند اليمين جلست قطة صغيرة ، انكمشت مرتجفة تحت احدى الموائد الخضرالمبللة ،وهي تناظل ان لاتصيبها القطرات عند نزولها ، قالت الزوجة :
- انا ذاهبة تحت لجلب تلك القطيطة .
عرض زوجها وهو في فراشه:
- انا سأذهب ..

- كلا ، سوف أأتي أنا بها ، المسكينة تحاول جاهدة تفادي البلل تحت المنضدة .
عاد الزوج الى القراءة ، مستندا على وسادتين عند قدمي السرير ، قال لها:
- حاذري ان تبتلي ..
نزلت الزوجة الى الطابق الأول ، فتوقف صاحب الفندق العجوز الطويل وحياها بأنحناءة حين مرت بمكتبه، وقد كانت منضدته الى الركن القصي من غرفة الأدارة ، احبت المرأة شكله ، قالت : - مساء الخير .
- نعم ، نعم سنيورة ، ياله من جو فظيع .
وبقي في مكانه عند الركن البعيد القليل الضوء من الغرفة ، بدت الزوجة معجبة به ، اعجبتها طريقته وجديته القاتلة حينما يواجه شكوى من احد ما ،اعجبها وقاره واسلوبه في تقديمه الخدمات اليها، احترامه لمركزه في الادارة،
قطة في المطر ~لإرنست همنجواي ~
كماأحبت شيخوخته ، صرامة وجهه ،ويديه الضخمتين .شعرت نحوه بميل كبير.
ذهبت لفتح الباب وجالت ببصرها خارجا ، وقد اشتد في تلك الأثناء زخ المطر ، عبر رجل الساحة الفارغة امامها متجها صوب المقهى وقد أئتزر واقيا مطريا ،ستكون القطة قد اتخذت لها مكانا عند الجانب الايمن ،و ربما قد ابتعدت قليلا حيث الرواق، وبينما هي متوقفة عند المدخل ، فتحت مظلة الى جوارها من قبل خادمةالغرف ، (علينا ان لاندع البلل يصيبك) ابتسمت وهي تكلمها بالأيطالية ،بالطبع قد ارسلها مدير الفندق ، جدت في السير على الممر الحصوي ، تتبعها الخادمة باسطة المظلة فوقها ، حتى وصلت الى المكان الذي يقع اسفل شباكها تماما،وجدت الطاولة في موضعها خضراء لامعة وقد غسلها المطر ، غير ان القطة لم تعد هناك.
اصيبت فجأة بالخذلان فنظرت اليها الخادمة متسائلة :
- سنيورة ، هل فقدت شيئا ؟
اجابت الفتاة الامريكية :
- كانت هنا قطة .
-قطة ؟
- نعم قطة .
- قطة ( ضحكت الخادمة ) قطة في المطر ..
- نعم ( قالت ) اسفل الطاولة،بعد ذلك ، اوه ، انا اريدها،اريد تلك القطيطة من كل قلبي .
اقطبت ملامح الخادمة حين حدثتها بالانكليزية قالت:
- سنيورة ، تعالي ..علينا ان نعود الى الداخل ،سوف تبتلين .
اجابتها الفتاة الامريكية :
- اظن ذلك .
قطة في المطر ~لإرنست همنجواي ~
سارتا عائدتين عبر ممر الحصى، دلفت المرأة خلال الباب بينما تأخرت الخادمة خارجا ، كي تغلق المظلة ، حالما عبرت الفتاة الامريكية مكتب الفندق بادرها المدير بانحناءةاخرى من خلف منضدته ، لازمها شعور بالانقباض ، واحساس داخلي بالغ الصغر ،فقد جعلتها انحناءة الرجل في تلك اللحظة تزداد ضئالة ولكنها في الوقت نفسه اشعرتها بأهميتها ومكانتها الحقيقية ،كان ذلك اشبه بشعور آني واحساس لامتناه بالوجود والرفعة والسمو. صعدت السلم ، وحين فتحت باب الغرفة ، كان جورج لايزال مستلقيا على الفراش مستمرا في قراءته .
- هل جلبت القطة ؟ سألها وهو يضع الكتاب جانبا ،
- لقد ذهبت .
راح يفرك عينيه لأراحتهما من القراءة ،تساءل : - عجبا ، اين تراها ذهبت ؟
جلست هي على حافة الفراش ،قالت :
- كنت راغبة كثيرا بالاحتفاظ بها ،لاأعرف لماذا أردتها بهذا الاصرار ،اردت تلك القطيطة المسكينة ،.أتراه شيئا مسرا وجود قطيطة بائسة تحت الامطار؟
عاد جورج الى المطالعة ، فانتقلت هي الى الجلوس امام منضدة مرآة الزينة،
وطفقت تنظر نفسها في مرآة يد صغيرة ،تطلعت تدرس وجهها من الجانب ،
بدأت اولا بأحد الجوانب ، ثم انتقلت الى الجانب الأخر ، بعد ذلك أخذت تتطلع بعناية الى مؤخرة رأسها وعنقها .

- هل تعتقد انها فكرة جيدة لو جعلت شعري ينمو اطول ؟
تساءلت وهي تنظر الى بروفيل وجهها ثانية .التفت جورج واخذ يتملى منظر عنقها من الخلف ، شعرها المقصوص مثل الاولاد .
- احبه على هذه الحال .
قالت : - لقد تعبت من ذلك ، تعبت من كوني ابدو اشبه بصبي.
اعتدل جورج مغيرا وضعيته في الفراش ، فلم يعد لمشاهدتها منذ ان ابتدأت بمحادثته. قال :
- ولكنك تبدين جميلة ولطيفةهكذا،سحقا .
أعادت المرآة الى الجرارة ، وقامت متجهة نحو الشباك ، تنظر بعيدا وقد خيم خارج الغرفة الظلام .قالت :
- ارغب ان ادفع شعري الى الخلف وأشده بنعومة ، اعمل منه عقدة كبيرة تنحدر الى الظهر ، تلك هي مشاعري ، ارغب بامتلاك قطة صغيرة اجلسها في حجري ، وتقر كلما ربتت فوق رأسها يداي .
تمتم جورج وهو على فراشه :
- نعم ...

-كما أرغب تناول طعامي على مائدة بالأواني الفضية خاصتي تحت ضوء الشموع ، ارغب بمقدم الربيع ، وتمشيط شعري في الهواء امام المرآة ،اريد قطة وبعض الفساتين الجديدة .
- اوه ، اصمتي ، وخذي لك شيئا تقرأينه ..
قال جورج ذلك وتابع قراءته ثانية .،فعادت هي تحدق خارجا من خلال النافذة ، كان الظلام قد ازداد حلكة ومازال المطر يتساقط باستمرار فوق الشجر:
- على اية حال ، اريد قطة ،(قالت ) اريد قطة ، اريدها الآن ، اذا لم يكن بوسعي ان احيا بسرور وان امتلك شعرا طويلا ،فبامكاني الحصول على قطة صغيرة .
لم يكن جورج مصغيا لكلامها وقد انشغل تماما بمطالعة كتابه ، فبقيت زوجته ترقب النافذة وتتطلع الى الأنوار التي بدأت تغمر الساحة .بينما كان احدهم يطرق الباب .
-ادخل ..
قال جورج ناظرا من فوق كتابه .كانت الخادمة تقف في الممر عند الباب ، ممسكة بقطة شعرها بلون درع السلحفاة ، تخلصت القطة من قبضتها بعناد وراحت تتأرجح عكس الأتجاه محاولة النزول :
- عفوا ..(قالت ) طلب مني المدير احضارها من اجل السنيورة .